لا يوجد شعور أفضل من تحقيق أول مراقبة باستخدام آلة جديدة أو تليسكوب جديد بالنسبة لعلماء الفلك. إنه ذروة سنين من التحضيرات وبناء الأجهزة الجديدة التي تجمع جزيئات الضوء من جسم فلكي للمرة الأولى. يتبعُ هذا الشعورَ عادةً شعورٌ بالراحة والحماس لكل العلم الجديد الذي أصبح الآن في متناول اليد. في الثاني والعشرين من أكتوبر حققت آلة الطاقة المظلمة الطيفية Dark Enerhy Spectroscopic على تليسكوب مايال Mayall أول صورة تلسكوبية لها في أريزونا في الولايات المتحدة الأمريكية. يُعدُ هذا الأمر قفزةً نوعيةً في قدرتنا على قياس مسافات المجرة ما يسمح بحقبةٍ جديدةٍ من تخطيط الأجسام الكونية.

كما يوحي اسمها قد تكون هذه الآلة المفتاح لحل أحد أكبر الأسئلة في الفيزياء: ما هي القوة الغامضة المسماة «الطاقة المظلمة» والتي تشكل سبعين بالمئة من الكون؟

النظام الكوني متجمع على بعضه. تعيش المجرات معًا في مجموعاتٍ من عشرات المجرات، وتوجد أيضًا تجمعات تتراوح من بضع مئات من المجرات حتى الآلاف منها. وتوجد أيضًا تجمعات خارقة super clusters، تتكون من عدة تجمعات من المجرات.

عُرفَ التسلسل الهرمي للكون من خلال الخرائط الكونية الأولى التي تتكون من عدة خطوط سوداء في الرسوم البيانية. في دراسة Redshift Survey لمركز فيزياء الفلك كانت هذه الصور المذهلة أول لمحة عن الجسيمات الضخمة في الكون ويمتد بعضها مئات ملايين السنين الضوئية.

بُنيت هذه الدراسة على فحص المجرات واحدةً تلو الأخرى مركزةً على قياس الطيف الضوئي- وهو فصل الضوء حسب طول الموجة أو اللون- لكل مجرة ومن ثم التعرف على بصمات عدة عناصر كيميائية محددة (غالبًا تكون هذه العناصر هيدروجين، ونيتروجين وأكسجين). أُزيحت هذه الإشارات الكيميائية بشكل منظم إلى طيف الأمواج الحمراء الأطول بسبب توسع الكون.

اكتُشفت «الإزاحة الحمراء Red shift» من قبل عالم الفلك فيستو سليفر Vesto Slipher، ومهدت الطريق لقانون هابل المشهور الآن الذي يلاحظ أن المجرات البعيدة تبدو أنها تبتعد عنا بشكل متسارع.

أول صورة تلسكوبية قد تحل لغز الطاقة المظلمة - هل استطاع العلماء حتى اليوم حل لغز الطاقة المظلمة؟ - ما هي القوة التي تجعل المجرات تدور

هذا يعني أن المجرات القريبة تبدو أنها تبعد عنا بشكل أبطأ نسبيًا بالمقارنة. هذه المجرات القريبة تكون إزاحتها الحمراء أقل من المجرات البعيدة؛ لذلك قياس الإزاحة الحمراء لمجرة ما يكون طريقةً لقياس بعدها عنا.

تعتمد العلاقة المحددة بين الإزاحة الحمراء والمسافة على تاريخ توسع الكون الذي يمكن حسابه نظريًا باستخدام نظريتنا عن الجاذبية وافتراضاتنا عن المادة وكثافة الطاقة في الكون.

اختُبرت كل هذه الفرضيات في نهاية القرن الماضي بجمع المراقبات الجديدة للكون مع استخدام خرائط ثلاثية الأبعاد من دراسات أكبر للإزاحة الحمراء.

أول تلسكوب كان تلسكوب Sloan Digital Sky Survey SDSS. رصد أكثر من مليون إزاحة حمراء للمجرات مشكلًا خرائط لأكبر جسم في الكون بتفصيلٍ لم يسبق.

تتضمن خرائط هذا التليسكوب مئات من التجمعات الخارقة للمجرات وساعد على أكبر اكتشاف غير متوقع وهو الطاقة المظلمة. أظهرت هذه الخرائط أن كثافة المادة في الكون كانت أقل من المتوقع من الضوء الذي بقي من الانفجار العظيم.

هذا يعني أنه لابد من وجود مادة غير معروفة سميت الطاقة المظلمة تسبب تسارع الكون وأصبحت عبر الزمن فارغة من المادة.

الأحجية

مهّد جمع هذه المراقبات الطريق لحقبة جديدة من الفهم الكوني فالكون في نظرنا الآن يتكون من ثلاثين بالمئة من المادة العادية وسبعين بالمئة من المادة المظلمة.

وبالرغم من قبول معظم علماء الفيزياء حقيقة وجود شيء ما كالطاقة المظلمة، فما زلنا نجهل شكلها بالضبط، لكن هناك بضع احتمالات على كل حال. يعتقد كثير من الباحثين أن طاقة الفراغ ببساطة لها قيمة، أطلقوا عليها اسم «الثابت الكوني». تتضمن احتمالات أخرى إمكانية عدم اكتمال نظرية آينشتاين عن الجاذبية عند تطبيقها على مستوى الكون الضخم.

ستساعد آلات جديدة مثل تلسكوب الطاقة المظلمة في معهد أريزونا للفيزياء الفلكية على أخذ الخطوة التالية لحل اللغز وستقوم بقياس عشرات الملايين من الإزاحات الحمراء للمجرات التي تكوِّن جزءًا كبيرًا من الكون وإلى مسافة تبعد نحو عشرة مليارات سنة ضوئية من الأرض.

لا بد أن تكون خريطةٌ عظيمةٌ ودقيقةٌ كهذه قادرةً على الجواب على بضعة أسئلة مهمة عن الطاقة المظلمة، وكيفية تشكل هذه الأجسام الضخمة في الكون.

يجدر بهذه الخريطة مثلًا أن تقول لنا ما إذا كانت الطاقة المظلمة مجرد ثابت كوني. وللقيام بهذا ستقيس نسبة الضغط الذي تؤديه الطاقة المظلمة على الكون إلى الطاقة الموجودة في وحدة الحجم.

إذا كانت الطاقة المظلمة ثابتًا كونيًا، ستكون هذه النسبة ثابتة في الوقت والموقع الكونيين. لكن قد تتغير هذه النسبة في شروحات أخرى وبالتالي فإن أي دليل على أن هذا الثابت الكوني غير ثابتٍ سيكون ثوريًا وسيشعل عملًا نظريًا شديدًا، وربما يبقى ثابتًا وهذا يشعل أيضًا ثورة في الفيزياء النظرية.

ستُختبر نظرية مهمة أخرى باستخدام تليسكوب معهد أريزونا لرصد الطاقة المظلمة، وهي نظرية التوسع inflation. تتوقع هذه النظرية أنَّ تقلباتٍ عشوائية كمية صغيرة في كثافة الطاقة في الكون الأولي توسعت بشكل سريع جدًا خلال فترة زمنية قصيرة من النمو الشديد لتصبح بذور الأجسام الكونية الضخمة التي نراها اليوم.

هذا التليسكوب هو فقط واحد من عدة مهمات مستقبلية للطاقة المظلمة لذلك يوجد أمل لحل لغز الطاقة المظلمة قريبًا.

اقرأ أيضًا:

متى وأين ظهرت المادة المظلمة والطاقة المظلمة؟

الجانب المظلم للكون: المادة والطاقة المظلمة

ترجمة: بوغوص حنا يوسيف

تدقيق: الياس عباس

المصدر