اقترحت دراسة جديدة أُجريت على الفئران والأنسجة البشرية أن فيروس نقص المناعة البشري -المُسبب لمرض الإيدز- قد يتخذ الدماغ مخبأً له عند العلاج بالأدوية المضادة للفيروسات الرَجعية، وذلك لاغتنام فرصة إصابة أعضاء أخرى بالجسم عند توقف العلاج.

يؤذي فيروس نقص المناعة البشري غير المُعالَج الجهاز المناعي، ويعرض الجسم للإصابة بأمراض مهددة للحياة.

يقلل العقار المضاد للفيروسات الرجعية تركيز الفيروس في الجسم لدرجة تجعله لا يُكتشَف، وتتحسن الأعراض بدرجة كبيرة، ويصبح الشخص المُعالَج غير مُعدٍ للآخرين. لكن من الضروري المداومة على العلاج يوميًا دون انقطاع، فقد يخرج الفيروس من مخبأه ويظهر مجددًا إن توقف العلاج فترةً مؤقتة.

اقترحت الدراسة المنشورة في مجلة (PLOS Pathogens) أن الدماغ أحد مخابئ الفيروس، فقد يختبئ في خلاياه المعروفة باسم الخلايا النجمية -سُميت بذلك لشكلها الشبيه بالنجم- التي تشكل نحو 60% من خلايا الدماغ البشري، ويتوقع مؤلفو الدراسة أن 1 – 3% من هذه الخلايا قد تُخفي الفيروس.

قالت لينا الحارثي، أستاذ العوامل المُمرِضة الميكروبية والمناعة في المركز الطبي بجامعة راش في شيكاغو: «حتى نسبة 1% قد تكون مهمة بوصفها مخبأً للفيروس. إن كنا سنحاول إيجاد علاج لفيروس نقص المناعة البشري فلا يمكننا إهمال مخزنه».

توصلت الحارثي وفريقها إلى نتائجهم اعتمادًا على نموذج فأر مصاب بالفيروس حُقِن بالخلايا البشرية، إضافةً إلى بعض الفحوص الأخرى التي أُجريت على أنسجة دماغية بشرية لمتبرعين مصابين بعد وفاتهم.

تشير التجربتان إلى دور الخلايا النجمية في عدوى فيروس نقص المناعة البشري، ومع ذلك نحن بحاجة إلى المزيد من البحث لمعرفة الآلية الدقيقة التي تمكن الفيروس من السيطرة على أجسام المرضى.

قال الطبيب ليشوموا ندلوفو، أستاذ المناعة في كلية الطب بجامعة ويل كورنيل، غير المشارك في الدراسة: «قد تخبرنا النماذج الحيوانية بالكثير. إن كان من المحتمل أن تمثل الخلايا النجمية مخزنًا لفيروس نقص المناعة البشري، وتُمكِّن خروج هذا الفيروس من الدماغ وإصابة مكان آخر من الجسم بالعدوى -كما تشير الدراسة على الفئران- فنحن بحاجة إلى معرفة كيفية التخلص من الفيروس في هذه الأعضاء للوصول إلى علاج ناجع».

الفيروس يتربص بنا

الخلايا النجمية هي أحد الأنماط الخلوية الموجودة في الدماغ، ولها أدوار مهمة في الجهاز العصبي المركزي، إذ تساعد هذه الخلايا على إيصال المغذيات إلى الخلايا العصبية -العصبونات- التي ترسل الإشارات الكهربية، وقد تحفز الاستجابة الالتهابية في الدماغ أو تكبتها.

تساهم الخلايا النجمية أيضًا في تشابك الجهاز العصبي وتحافظ على هذا التشابك، وتقوي الحاجز الدماغي الدموي، وهو حاجز نسيجي يفصل الدم عن خلايا الدماغ.

اكتشف العلماء أن فيروس نقص المناعة البشري يتسلل إلى الدماغ في أثناء العدوى، وعندها قد يطور المصابون الخرف إضافةً إلى أشكال أخرى من العجز المعرفي.

قالت الحارثي: «كان دور الخلايا النجمية في عدوى فيروس نقص المناعة البشري مثيرًا للجدل دائمًا».

فيروس HIV يختبئ في الخلايا الدماغية ليصيب باقي الأعضاء - فيروس نقص المناعة البشري قد يتخذ الدماغ مخبأً له عند العلاج بالأدوية المضادة للفيروسات الرَجعية

وكتبت في تقرير نُشِر في (The Journal of NeuroVirology) سنة 2018: «اقترحت دراسات سابقة أن الخلايا النجمية قد تصاب بالفيروس، لكن معظم الأبحاث اعتمدت على خلايا مزروعة في أطباق بتري، وهي لا تعكس آلية العدوى في الكائنات الحية».

استخدمت قلة من الدراسات حيوانات حية، لكنها اعتمدت على طرق تقليدية مثل وسم البروتينات الفيروسية أو المادة الجينية الفيروسية بمواد مفلورة بحثًا عن الفيروس. لكن قد لا تكون هذه المواد حساسةً كفاية لتكشف المستويات المنخفضة من الفيروس في الخلايا النجمية بدقة.

لم تحاول أي دراسة أن تجيب عن السؤال: هل تستطيع الخلايا النجمية المُصابة أن تحرر الفيروس ليصيب أعضاءً أخرى؟

طورت الحارثي وفريقها نموذجين فأريين جديدين للإجابة عن هذا السؤال.

وضع المؤلفون في البداية خلايا نجمية جنينية بشرية مأخوذة من نسيج دماغي معزول في أطباق بتري، وأصابوا هذه الخلايا بفيروس نقص المناعة البشري.

بعد ذلك حقنوا هذه الخلايا المصابة في أدمغة فئران مخبرية من مجموعتين، المجموعة الأولى ضمت فئرانًا حديثة الولادة والثانية فئرانًا بالغة.

وجد المؤلفون أن الخلايا النجمية المُصابة نقلت الفيروس للخلايا التائية المساعدة (سي دي 4)، وهي نمط من خلايا الجهاز المناعي تساعد على تنظيم استجابة الجسم المناعية، ويستهدفها فيروس نقص المناعة البشري خاصةً.

خرجت الخلايا سي دي 4 من الدماغ بعد إصابتها بالعدوى من الخلايا النجمية إلى أنسجة أخرى. قالت الحارثي: «الدماغ مُصاب بالفيروس سابقًا، ويستطيع الفيروس مغادرته وإصابة الأعضاء المحيطة».

لاحظ المؤلفون أن الطحال والعقد اللمفاوية أصيبا بالفيروس نتيجةً لذلك، واستطاعوا وقف سلسلة الانتقال الفيروسي بإعاقة حركة الخلايا سي دي 4.

أجرى المؤلفون تجربة أخرى لتأكيد قدرة الفيروس على إصابة الخلايا النجمية بنفسه دون تدخلهم. اعتمدت التجربة على حقن الفئران بخلايا نجمية بشرية سليمة، ثم إصابة هذه الفئران بالفيروس.

في هذه التجربة، أُصيبَت بعض الخلايا النجمية البشرية بالفيروس أيضًا وحررته إلى بقية أنحاء الجسم. واستطاع الفيروس الخروج من أدمغة الفئران التي تلقت العلاج المركب المضاد للفيروسات الرجعية مقارنةً بالفئران التي لم تتلق هذا العلاج. إذا توقف العلاج، فسيبدأ الفيروس الموجود في الدماغ العدوى.

لتأكيد التجارب على الفئران، فحص المؤلفون أربعة أدمغة بشرية تبرع بها مصابون بالفيروس توفوا بعد أن تلقوا علاجًا مركبًا مضادًا للفيروسات الرجعية، وكان العلاج فعالًا. لم يوضح التقرير كيفية وفاة المتبرعين الأربعة، لكنه أشار إلى أن العلاج قد ثبط الفيروس بفعالية.

وجد الفريق أن نسبةً صغيرة من الخلايا النجمية احتوت على المادة الجينية لفيروس نقص المناعة البشري في نواها، ما يشير إلى أن هذه الخلايا أُصيبَت بالفيروس.

البحث عن علاج

ما زالت العديد من الأسئلة حول الخلايا النجمية وفيروس نقص المناعة البشري دون إجابة.

قالت الحارثي أن بعض أنماط الخلايا النجمية قد تؤدي دور مخزن الفيروس، وبعضها الآخر لا دور له في هذا.

مع أن التجارب على الفئران أوضحت أن الفيروس قد يخرج من الدماغ، فإن تحليل الأنسجة الدماغية البشرية لم يؤكد حدوث الأمر نفسه لدى البشر.

قالت الحارثي: «النماذج الحيوانية قد لا تكون مثالية»، لذلك ربما كان تطور العدوى عند البشر مختلفًا.

قال ندلوفو: «تتراكم الطفرات الجينية عند كل تضاعف للفيروس، وبهذا قد تُفقَد المادة الجينية التي يحتاج إليها للعدوى. لفهم دور الخلايا النجمية في العدوى بالكامل، يحتاج الباحثون إلى تحديد كمية الفيروسات الموجودة في الخلايا النجمية البشرية، التي تستطيع بدء العدوى من جديد».

بدأت الحارثي وفريقها البحث عن إجابة لهذا السؤال، بفحص أنسجة دماغية بشرية لبعض المصابين بعد وفاتهم، وتحليل أجزاء المادة الجينية الفيروسية الموجودة ضمنه.

قال ندلوفو: «ربما تؤكد الدراسات اللاحقة أن هذه الفيروسات قادرة على عدوى الخلايا والخروج إلى أعضاء أخرى في الجسم. سيحتاج العلماء إلى تحديد الطريق الحقيقي الذي يسلكه الفيروس للخروج من الدماغ وإصابة الأعضاء الأخرى، لأن هذه المعلومات ستكون أساسية لتطوير العلاجات التي تستهدف الدماغ، ولإيجاد علاج ناجع للفيروس».

اقرأ أيضًا:

اكتشاف علاج تجريبي يؤدي إلى تلاشي خلايا الإيدز «HIV» من دم المرضى

ثغرة في فيروس (HIV) قد تقود لعلاج مرض الإيدز

ترجمة: رؤى علي ديب

تدقيق: محمد نجيب العباسي

مراجعة: أكرم محيي الدين

المصدر