يذكرنا ديفيد ماكلين رئيس قسم الفلسفة في جامعة روتجرز أن الفلاسفة منذ عصر أفلاطون قد عرّفوا المعرفة على أنها “اعتقاد مبرر للحقيقة”، ومع ذلك فقد شكك كثيرون في هذه الفكرة طوال القرون الماضية، معتبرين أن نفس الأدلة التي يعتبرها شخص ما صالحة لتبرير الاعتقاد بأن فكرة ما صحيحة، قد يعتبرها آخر متحيزة أو غير كاملة.

في ظل هذا الخلاف روّج مفكرو عصر التنوير مثل رينيه ديكارت وتشارلز ساندرز بيرس للطريقة العلمية كأفضل وسيلة للحصول على أدلة منطقية لإنشاء معتقدات تكون بمثابة معرفة حقيقية. امتدح بيرس الطريقة العلمية مقارنة بوسائل المعرفة الأخرى في مقاله الشهير تثبيت العقائد (1877)، ورفض القبول الأعمى للحقائق لمجرد أنها صدرت عن شخصيات نافذة، أو أنها تمتعت بقبول تاريخي، أو بالاعتماد على التفكير المجرد لإنشاء المعارف دون اختبار هذه الاستنتاجات النظرية بالتجربة في العالم الحقيقي.

تعتبر الطريقة العلمية -بإصرارها على الملاحظة المباشرة والاختبار الموضوعي للفرضيات- تقدمًا كبيرًا للحضارة البشرية، ما سمح لنا بالتغلب على الخرافات والمعتقدات الأخرى غير الموثوقة أو غير المناسبة، وهي بلا شك أفضل نظام لمساعدة الجنس البشري على التقدم تدريجيًا نحو الحقيقة. رغم كل ذلك فإن المنهج العلمي والطريقة العلمية ككل لها حدود معينة في القدرة على تقديم الأدلة الكافية لإنشاء المعرفة وتأكيدها.

لنأحذ المثال التالي: على مدار العقد الماضي سُحبت العديد من النتائج العلمية التي توصلنا إليها وعُدّت حقائق، إما بسبب خطأ أو احتيال بشري، ففي عام 2016 اكتشف باحثون من السويد خطأً إحصائيًا من المحتمل أن يلغي نتائج 40 ألف دراسة تتعلق بالرنين المغناطيسي الوظيفي لأمراض الأعصاب أجريت على مدى 15 عامًا.

إيجابيات المنهج العلمي وسلبياته - التفكير المجرد لإنشاء المعارف دون اختبار هذه الاستنتاجات النظرية بالتجربة في العالم الحقيقي

ربما تكون إحدى أهم المشاكل التي يواجهها العلم اليوم أننا بينما نحاول دراسة الظواهر الأكثر تعقيدًا وتفسيرها، فسنحتاج إلى معدات أكثر تعقيدًا وتطورًا، ما يبعدنا أكثر فأكثر عن الملاحظة المباشرة، ويتطلب أن نضع ثقتنا العلمية في الآلات والتكنولوجيا، وبالعودة إلى الدراسة السويدية السابقة سنلاحظ أن العلماء الذين يدرسون بيانات جهاز التصوير بالرنين المغناطيسي لا ينظرون بأنفسهم إلى الدماغ، بل يتركون تفسير الصور لبرامج الكمبيوتر.

حتى لو انتقلنا إلى الرياضيات -أنقى تخصصات العلوم والتكنولوجيا وأكثرها تجردًا- سنجد أنها تعاني من أزمة ثقة أيضًا، إذ شكّك العلماء في صحة عدد لا يحصى من الأدلة التي تُشكل أسس الرياضيات الحديثة. فقد أعلن عالم الرياضيات كيفين بازارد في مؤتمر أجري في عام 2019: «أن أعظم البراهين أصبحت معقدة للغاية لدرجة أنه لا يمكن لأي إنسان على وجه الأرض فهم جميع تفاصيلها، ناهيك عن التحقق من صحتها، وربما سنكتشف يومًا أن العديد من البراهين التي اعتبرت صحيحة لفترة طويلة خاطئة».

يشرح الصحفي مورديشيا روفيغ ذلك بقوله: «تميل البراهين الجديدة التي يصل إليها علماء الرياضيات اليوم إلى الاعتماد على مجموعة من النتائج السابقة التي نشرت واعتُمدت من قبل، ولكن يبدو أن هناك العديد من الحالات التي تستخدم فيها براهين سابقة لبناء أدلة جديدة رغم أنها غير واضحة أو مؤكدة، وهو الأسلوب الذي يعرف في الفسلفة باسم الرجوع اللامتناهي».

لنعد إلى العلم مرة أخرى، لو افترضنا أن باحثًا طبيًا يريد إجراء تجربة لتحديد ما إذا كان استخدام جرعة أقل من أزيثروميسين 250 ملغ سيكون فعالًا بنفس قدر جرعة 500 ملغ المعيارية لعلاج التهاب الجيوب الأنفية الحاد مع آثار جانبية أقل. لذلك سيصمم الباحث دراسة تقارن جرعة 250 ملغ بجرعة 500 ملغ. يتحكم الباحث الرئيسي في جميع معايير الدراسة ويضطر إلى اتخاذ قرارات ذاتية تتعلق بكل جانب من جوانب الدراسة، وفي هذه التجربة بالذات سيكون لدى الباحث قائمة لا نهائية من القرارات التي يتعين عليه اتخاذها، مثل:

  •  من سيخضع للدراسة؟ كبار أم أطفال؟ رجال أم نساء؟ مجموعة عرقية معينة؟
  •  ما هي المعايير التي ستعتمد لتعريف وتشخيص التهاب الجيوب؟
  •  ما هي طريقة إعطاء دواء الأزيثروميسين؟ حبوب، شراب، حقن وريدي.
  •  كيف سنُقيم فعالية الدواء؟ صورة شعاعية للجيوب الأنفية، فحص سريري من قبل الطبيب، الاعتماد على الأعراض التي يذكرها المريض.
  •  ما هي الطرق الإحصائية التي ستستخدم لتحليل بيانات الدراسة والوصول للنتائج؟

هذه المعطيات وغيرها مجرد أمثلة صغيرة عن القرارات التي يضطر الباحثون إلى اتخاذها في التجارب العلمية، وسنلاحظ أن “الذاتية” تدخل في كل هذه القرارات. كيف لنا أن نعرف فيما هل كان الباحث الطبي في التجربة السابقة أو أي من العلماء الذين نثق بهم لإجراء الأبحاث التي تعتمد حياتنا عليها، قد اتخذ القرارات الصحيحة، أو احتال في إجراء الدراسة أو نتائجها بطريقة أو بأخرى؟

قد تكون إحدى فوائد الحصول على درجة الدكتوراه في علم النفس هو أننا مدربون ليس فقط كأطباء ولكن كعلماء أيضًا، وكعلماء نحن مطالبون بتقديم أبحاثنا بانتظام كي تخضع لمراجعة الأقران في المجتمع العلمي من خلال المؤتمرات الأكاديمية والاجتماعات الأسبوعية الدورية.

يمكن أن يكون تقديم بحث ما في هذه المؤتمرات تجربة صعبة، لأنه من الشائع أن يرفض العلماء الآخرون بحثك عندما يختلفون مع منهجيتك أو إحصائياتك. هكذا كانت الأمور على الدوام في مجال العلوم، وقد دفع هذا الواقع العالم الكبير ماكس بلانك -رائد ميكانيكا الكم- إلى قوله الشهير: «الحقيقة العلمية الجديدة لا تنتصر بإقناع خصومها، بل لأن خصومها يموتون في نهاية المطاف، ويكبر جيل جديد يؤمن بهذه الحقيقة».

إن معظم القضايا والخلافات العلمية لم تحل حتى الآن على عكس ما يعتقده الكثير من الناس، أقول هذا ليس لأنني أسعى إلى مهاجمة العلم ولكن من أجل الدفاع عنه ضد العلم الزائف ونظريات المؤامرة.

من الضروري أولاً وضع توقعات واقعية للأبحاث العلمية، وأنا شخصيًا أؤمن بغالبية العلماء وغالبية نتائج الأبحاث المنشورة في المجلات التي تخضع لمراجعة الأقران لأن ذلك خدمني بشكل جيد في عملي، ولكن يجب أن أعترف أيضًا أنه على الرغم من إيماني بغالبية نتائج الأبحاث التي خضعت لمراجعة الأقران، إلا أنني لا أعرف عنها بنفس الطريقة التي أعرفها عن تأثيرات الجاذبية أو غيرها من القوانين العامة.

ويجب أن أعترف أيضًا أن خبرتي في العلوم قد جعلتني أدرك حدود قدرتنا على معرفة الأشياء، حتى عند استخدام الطريقة العلمية ، وقد عززت هذه التجارب إيماني بأشياء أخرى لا يمكن أن يثبتها العلم.

كاتب المقال: الدكتور جون كوتون، الأستاذ المساعد في الطب النفسي السريري بجامعة ستوني بروك.

اقرأ أيضًا:

ما هو المنهج العلمي ؟ وما خطواته؟

المنهج العلمي: الحقائق ولا شيء سوى الحقائق

انفوجرافيك: المنهج العلمي

إعداد: د. محمد الأبرص

تدقيق: جعفر الجزيري

المصدر