منذ اكتشاف جيمس واطسون وفرانسيس كريك البنية الجزيئية للحمض النووي، كان احتمال تعديل لبنات الحياة لتغيير البيولوجيا وعلاج الأمراض سببًا في إثارة التفرقة في صفوف الباحثين وكتاب الخيال العلمي على حد سواء. في العقود السبعة التالية وسّعت التقنية الجينية آفاقنا العلمية، ما مهد الطريق أمام تحقيق إنجازات كبرى في مجالات العلوم البيولوجية، والرعاية الصحية، وعلم الآثار، وما ذلك إلا البداية فقط.

إعادة الحياة إلى الأنواع المنقرضة

قد يبدو الأمر أشبه بحبكة روائية من تأليف مايكل كريتون، إلا أن الباحثين يعكفون على استخدام أدوات جينية في سبيل إعادة أنواع معينة من الانقراض.

يعمل فريق من خبراء الوراثة، تحت قيادة دكتور جورج تشرش، في جامعة هارفارد حاليًا على إعادة الحياة إلى حيوان الماموث العملاق الصوفي، بواسطة استبدال خلاياه بخلايا الفيل الآسيوي الذي يُعد أقرب الأقرباء الجينين للماموث.

كيف غيرت التقنيات الجينية العالم من حولنا - التعديل الجيني من أجل تغيير البيولوجيا وعلاج الأمراض - إعادة الحياة إلى حيوان الماموث العملاق الصوفي

يتقاسم النوعان 99.96% من الحمض النووي، لذلك لا يتطلب تنفيذ هذا المشروع الطموح في واقع الأمر سوى تغيير بضعة آلاف من جينات الفيل لإعادة تقديم صفات امتلكها الماموث سابقًا، يمكن تحقيق ذلك بفضل تقنية كريسبر، التي تستخدم الحمض النووي الريبي لتوجيه بروتين يسمى CAS-9 نحو قسم محدد من الحمض النووي، ومن ثم قطع سلسلتي اللولب المزدوج للحمض النووي لإتاحة دخول مادة وراثية جديدة.

تُنفذ حاليًا مشاريع مماثلة لمحاولة إعادة حمامة الركاب المنقرضة ونمر تاسمانيا، لكن لم نجد أي حيوانات جديدة حتى الآن. يعمل الباحثون عوضًا عن ذلك على زراعة أنسجة أنتجتها خلايا جذعية تعبر عن خصائص معينة ترتبط بهذه الأنواع المنقرضة، مثلًا، عمل تشرش وزملاؤه على تغيير الحمض النووي للخلايا الجذعية المأخوذة من الفيل لخلق خلايا دم حمراء قادرة على العمل في درجات حرارة دون الصفر، تمامًا كما كانت حال الخلايا الجذعية لحيوان الماموث.

وفور نجاحهم في زراعة الدم والدهون والشعر والأنسجة الأخرى التي تشبه إلى حد بعيد ذلك الحيوان الثديي الصوفي، سيحاول الفريق خلق جنين قادر على النمو إلى حيوان هجين بين الفيل والماموث، وإذا نجحت تجربتهم، فسنتمكن من توفير الحماية لأنواع مهددة بالانقراض، ويتجاوز الأمر ذلك إلى الإسهام في الحد من التغير المناخي، فقد يشكل إعادة الحيوانات العاشبة مثل الماموث إلى المنطقة القطبية بادرةً لتطور تلك المناطق إلى مناطق الأعشاب والسهوب، التي تعكس الأشعة الشمسية إلى الفضاء ما يسهم بتبريد المنطقة، ومن ثم إبطاء ذوبان الجليد الهائل، ومنع إطلاق كميات ضخمة من الكربون المحتبس داخلها.

شفاء الأمراض

بالعودة إلى الحديث عن الكائنات الحية، يجري العمل على تطوير العديد من الإجراءات الطبية القائمة على نظام كريسبر لاستنباط العلاجات لمجموعة من الأمراض، مثلًا، يجري الباحثون في جامعة بنسلفانيا حاليًا تجربةً سريريةً لمعرفة هل يمكن استخدام أدوات التعديل الجيني لعلاج السرطان؟

وبإجراء بعض التغييرات على الحمض النووي للخلايا المناعية لدى المرضى يأمل الفريق في تعزيز قدرة هذه الخلايا على رصد الخلايا السرطانية وتدميرها، وفور الانتهاء من هذا سيتمكن الجسم من القضاء على الأورام، ما سيحدث ثورةً في علاج السرطان في المستقبل.

على نحو مماثل، يأمل العلماء في استخدام كريسبر لعلاج فيروس نقص المناعة البشرية، مع بدء إجراء التجارب لمعرفة قدرة هذه التقنية على القضاء على الفيروس من طريق إلحاق الضرر بالجين CCR5 الذي يحتاج إليه المسبب المرضي لغزو الخلايا داخل الجسم، أظهرت الاختبارات الأولية أن هذا الإجراء آمن، ويعمل الباحثون الآن على تحسين كفاءته العملية.

اختبارات النسب

ربما تقودنا الأدوات الجينية إلى مستقبل جديد مليء بالإثارة، ولكنها تستطيع مساعدتنا على النظر إلى الماضي والكشف عن أسرار أصولنا، إذ أصبحت اختبارات النسب التي تكشف عن النسب الجغرافي المكتوب في الحمض النووي لكل فرد شائعة الاستخدام إلى حد بعيد في الأعوام الأخيرة، وغدت ممكنةً بفضل عملية تسمى تفاعل البلمرة المتسلسل.

تتيح هذه العملية -التي يشار إليها أحيانًا باسم «النسخ الجيني»- للعلماء تضخيم أجزاء صغيرة من الحمض النووي بواسطة تكراره مليارات المرات من أجل دراسة جينات معينة، تبدأ العملية بتشويه الحمض النووي الحلزوني المزدوج إلى خيوط مفردة تحت درجات حرارة عالية، قبل أن يجمع إنزيم يسمى بوليمر تاك النيوكليوتيدات ذات الصلة لإعادة بناء كل منها في شكل لولبي مزدوج جديد، وبتكرار هذا الإجراء 30 مرة، نتمكن من إنشاء أعداد هائلة من نسخ حمض نووي محدد، ما يفيد في تشخيص الأمراض الوراثية وتحديد الأنماط الجينية. اشتهر هذا الأسلوب بدراسة الحمض النووي لهيكل عظمي يبلغ عمره 42 ألف عام في أستراليا، يُسمى «رجل المنغو»، كشفت الدراسة امتلاك هذا الكائن سمات جينيةً لا توجد إلا في سكان أستراليا الأصليين، ما يؤكد أن هذا الهيكل العظمي أسترالي الهوية.

من المؤسف أن فك شفرة هذه النتائج استغرق أكثر من عقد نظرًا إلى تلويث الباحثين القائمين على الدراسة الأصلية سنة 2001 عينة رجل المنغو دون قصد، ما يعني أنهم أجروا تفاعل البلمرة المتسلسل على حمضهم النووي.

التعرف على المجرمين

استخرج علماء الوراثة في فيلم جوراسيك بارك الحمض النووي من بعوضة قديمة لإحياء الديناصورات التي تغذت عليها الحشرة، لا يُعد ذلك مرجح الحدوث في حياتنا الحقيقة، إلا أن العلماء في اليابان يجزمون بإمكانية استخدام هذه الخاصية في التعرف على المجرمين بواسطة تحليل دم البعوض الذي يعثرون عليه بالقرب من مسرح الجريمة.

لإثبات نظريتهم، طلب الباحثون من المتطوعين أن يسمحوا للبعوض بقرصهم والتغذي عليهم، قبل أن يعمدوا إلى استخلاص الحمض النووي من الحشرات وتحليلها باستخدام تفاعل البلمرة المتسلسل، ومع أن العلماء تمكنوا من التعرف بنجاح على كل مشارك في الدراسة من العينات التي استرجعوها، فمن غير المرجح أن يعتمدوا هذا النوع من الأدلة في المحكمة، إذ يميل البعوض إلى التغذي على دم المارة الأبرياء والمجرمين على حدّ سواء.

اقرأ أيضًا:

تحسين النسل: هل تحل تقنية (كريسبر) المشكلات الاجتماعية؟

ما هو عدد الطفرات الجينية التي تمتلكها ولا يمتلكها أي من اهلك؟

ترجمة: بشرى عيسى

تدقيق: راما الهريسي

مراجعة: أكرم محيي الدين

المصدر