من المعروف أن الشمس تمر بالعديد من الأنشطة ذات الإيقاعات المختلفة، ولعل «دورة شواب» -التي تبلغ أحد عشر عامًا- هي أشهر تلك الدورات، ولكن ماذا عن الدورات الأخرى الأطول زمنيًا؟ كيف يمكن العلماء فهمها؟

كما سيتضح لنا، تركت الشمس بصماتها الخفية على حلقات الأشجار، فمنذ نحو 400 عام بدأ الفلكيون بمراقبة الشمس بتلسكوباتهم، ولاحظوا بعض البقع الشمسية التي تظهر وتختفي، وبدأوا بتسجيل ظهور تلك البقع واختفائها، لكنهم لم يدركوا دلالة ذلك.

علمتنا تلك الملاحظات الكثير عن نشاط الشمس، مثل أنه كلما زادت البقع الشمسية، دل ذلك على نشاط متزايد داخل الشمس، لكن توجد دورات أخرى أطول زمنًا لها تأثير في الأرض ومناخها، ورغم قيمة رصد النشاط الشمسي على مدار 400 عام من اختراع التلسكوبات، فإن تلك المدة ليست كافية لإخبارنا بشأن الدورات الشمسية الأطول.

أراد فريق من العلماء إعادة بناء دورة شواب في زمن أبعد نسبيًا من 400 عام، لفهم كيفية عملها، ولتحقيق ذلك تطلب الأمر فك بعض الشفرات التي تركتها الشمس في الأشجار في صورة «نويدات» مشعة صنعتها الأشعة الكونية.

قاد الفريق هانس أرنو سينال ولوكاس واكر من معمل أيون بيم للفيزياء في زيوريخ، وتعقبوا دورة شواب منذ عام 969، بقياس نسب الكربون المشع في حلقات الأشجار، ونشروا نتيجة بحثهم في ورقة بعنوان «الكربون المشع في حلقات الأشجار يكشف دورات شمسية ذات 11 عامًا في الألفية الأخيرة»، ونُشر البحث في مجلة Nature Geoscience.

ألف عام من تاريخ الشمس مكتوب في الأشجار - الأنشطة ذات الإيقاعات المختلفة التي تمر بها الشمس - النشاط الشمسي - حلقات الأشجار - الكربون المشع

تنمو الأشجار بحلقات سنوية، فكل عام تنمو حلقة جديدة في الشجرة، وتعكس تلك الحلقة النشاط الشمسي لتلك السنة، وبوضع تلك الحلقات معًا نحصل على صورة دقيقة للنشاط الشمسي.

لاحظ العلماء سجلات حلقات أشجار من بريطانيا وسويسرا، إذ تحتوي كل حلقة على كمية ضئيلة للغاية من الكربون المشع، تُقدر بذرة واحدة من الكربون 14 لكل تريليون ذرة، وبمعرفة نصف عمر ذرة الكربون 14 -نحو 5700 عام- يستطيع العلماء حساب تركيز ذرات الكربون 14 في الغلاف الجوي عندما تنمو كل حلقة.

الأغرب أن ذلك الكربون المشع في حلقات الأشجار لا يأتي من الشمس، بل من الأشعة الكونية التي تصل إلى الأرض من خارج النظام الشمسي، لكن المجال المغناطيسي الشمسي يحفظ الأرض من تلك الأشعة، إذ كلما ازدادت قوة المجال المغناطيسي قلت نسبة نظير الكربون 14 التي تبلغ الأرض، ومن ثم قل وجودها في حلقات الأشجار، لذلك كلما قلت نسبة كربون 14 في حلقات الأشجار، عنى ذلك نشاطًا شمسيًا أعلى في تلك الفترة.

لكن قياس تلك النسبة الضئيلة من نظير الكربون 14 المشع في حلقات الأشجار ليس سهلًا على الإطلاق، ولا يمكّننا من قياس الاختلافات بين سنة وأخرى.

قال لوكاس واكر: «يرجع القياس الوحيد من هذا النوع إلى الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي، وشمل الأعوام الأربعمئة الأخيرة، واستعمل طرقًا مضنيةً للحساب». في تلك الطريقة، استُعمل عداد جايجر لقياس تحلل كل نظير للكربون المشع، واستغرق الكثير من المواد والوقت.

استحدث الفريق طريقةً أخرى للقياس، وهي مسرع قياس الطيف الكتلي، وهو نوع من قياس الطيف طُوّر في منتصف القرن العشرين، وهو مفيد تحديدًا في اكتشاف النظائر المشعة الأطول عمرًا مثل الكربون 14.

صرح نيكولاس بريم: «باستخدام مسرع قياس الطيف الكتلي الحديث، استطعنا في غضون ساعات قياس تركيز الكربون 14 حتى نسبة 0.1% من عينات حلقات الأشجار الأصغر بآلاف المرات».

تحتوي عينات حلقات الأشجار نوعين من الكربون، نظير الكربون 14 المشع، والكربون 12، الأوفر بين نظائر الكربون المستقر، ويسرع المسرع كلا النوعين قبل إرسالهما عبر المجال المغناطيسي، ويوجه المجال المغناطيسي واحدًا من النوعين إلى اتجاه والثاني إلى اتجاه آخر لاختلاف كتلتيهما، ثم تُحلل نتيجة القياس إحصائيًا.

صورة: مخطط لمسرع قياس الطيف الكتلي، يُفصل نوعا الكربون بواسطة اختلاف الكتلة

نتيجةً لذلك، استطاع الفريق إعادة بناء سجل النشاط الشمسي على امتداد الفترة من سنة 969 إلى 1933، وأكد السجل دورات شواب الشمسية طوال تلك الفترة، وبيّن أن سعة تلك الدورة، أو مدى ارتفاع النشاط الشمسي وانخفاضه، كانت أصغر خلال فترة الخمول الشمسي الذي دام طويلًا.

أكد السجل شيئًا آخر، فسنة 993 وقع حدث شمسي بروتوني أدى إلى وصول نظير الكربون المشع 14 في الجو إلى ذروته.

تقع تلك الأحداث عندما تتسارع البروتونات الصادرة من الشمس إلى حد اختراق الغلاف المغناطيسي للأرض فتسبب تأين الغلاف الجوي، ولفترة طويلة دار جدل حول حدوث هذه الواقعة عام 993، وأخيرًا حسم البحث الجدل مؤكدًا وقوع ذلك الحدث.

وجد العلماء حدثين بروتونيين مماثلين، وقع أحدهما سنة 1502 والآخر سنة 1279، وقد اكتُشف هذان الحدثان للمرة الأولى، وربما كان ذلك مؤشرًا إلى أن تلك الأحداث تقع بتكرار أكبر مما تصورنا سابقًا، وتكمن أهمية الاكتشاف في التأثير الذي تحدثه تلك الأحداث في الأرض، إذ قد تسبب مشكلات للإلكترونيات والأقمار الصناعية.

تحتوي الأرض على بعض الأشجار المعمرة، منها «ميثوسيلا» وهي شجرة صنوبر في كاليفورنيا يُعتقد أن عمرها 5000 عام. لإجراء هذه الدراسة، لم نضطر لإيذاء تلك الأشجار القديمة، بل اختبر الباحثون أخشاب البناء العتيقة الموجودة في المباني القائمة، مثل «كنيسة آبي في سانت ألبان» في هيرتفوردشير في بريطانيا التي تعود إلى القرن الحادي عشر، إذ اختبر الفريق 13 عارضة خشبية من 11 بناية في بريطانيا وسويسرا.

يقدم هذا التحليل فرصة لدراسة المزيد عن الشمس، إذ لدينا سجل لحلقات أشجار تعود إلى 14 ألف سنة في الأخشاب شبه المتحجرة الغنية بالكربون، ويأمل الباحثون في استعمال طريقتهم لقياس تركيز الكربون 14 المشع في الأخشاب، لإعادة بناء سجل النشاط الشمسي وصولًا إلى العصر الجليدي.

اقرأ أيضًا:

هل تمكن رؤية السوبرنوفا في الأشجار؟

شمسنا ضعيفة مقارنة بالنجوم الأخرى!

ترجمة: أحمد جمال

تدقيق: أكرم محيي الدين

المصدر