أحدثت نظرية آينشتاين للنسبية العامة تغييرًا جذريًا في نظرتنا لأهم المفاهيم الفيزيائية، كالزمان والمكان، إلا أنّها خلّفت بين طيّاتها أيضًا بعض الألغاز المثيرة. أحد هذه الألغاز هي الثقوب السوداء، التي اكتُشفت خلال السنوات القليلة الماضية. هناك أيضا الثقوب الدودية (wormholes)، وهي جسور تربط بين نقاط مختلفة على نسيج الزمكان، وهو ما يسمح نظريًا بخلق اختصارات يمر من خلالها المسافرون في الفضاء.

ما تزال أفكار الثقوب الدودية من وحي الخيال، لكن بعض العلماء يعتقدون أننا سنتمكن من اكتشافها قريبا، فخلال الأشهر القليلة الماضية طُرحت عدة دراسات جديدة تقترح طرقًا مثيرة لتعقب الثقوب الدودية.

الثقوب السوداء والدودية هي حلول من نوع خاص لمعادلات آينشتاين، وتنشأ عندما ينحني نسيج الزمكان بشدة بفعل تأثير الجاذبية. على سبيل المثال، عندما تكون المادة كثيفة للغاية فإنها تشوه نسيج الزمكان، الذي يُصبح منحنيًا جدًا ولا يهرب منه حتى الضوء، ويعرف هذا بالثقب الأسود.

بما أن نظرية آينشتاين تقترح أن نسيج الزمكان يتمدّد وينحني، فيمكننا إذن تخيل بعض التكهنات الهندسية المترتبة على ذلك.

من ذلك ما اقترحه آينشتاين والفيزيائي ناثان روزين عام 1935، إذ وصفا لنا كيفية الربط بين صفحتين من الزمكان معًا، وإنشاء جسر بين كونين. هذا نوع من الثقوب الدودية، ومنذ ذلك الحين اقترحت العديد من الأنواع الأخرى.

قد تكون بعض أنواع هذه الثقوب الدودية قابلة للعبور، وهذا يعني أن البشر قد يستطيعون السفر خلالها.

لتحقيق ذلك، يجب أن تكون هذه القنوات كبيرة بما يكفي وتظل مفتوحة ومتصدّية لقوة الجاذبية، التي تعمل على إغلاقها، وذلك لأن دفع نسيج الزمكان بتلك الطريقة إلى الخارج يتطلب كميات هائلة من الطاقة السلبية “negative energy”.

قد يبدو الأمر وكأننا نشاهد فيلم خيال علمي، لكننا متأكدون من وجود الطاقة السلبية، التي أُنتجت بكميات صغيرة في المختبر، والتي تسرع من تمدد الكون، لذلك قد تكون قوانين الفيزياء وجدت طريقة ما لإنشاء ثقوب دودية.

كيف نرصد الثقوب الدودية في الكون - ما هي الثقوب الدودية في الفضاء وكيف سيتمكن العلماء من رصدها - جسور تربط بين نقاط مختلفة على نسيج الزمكان

كيف نرصد الثقوب الدودية؟

يقترح فلكيون روس في ورقة بحثية جديدة نُشرت في «التقارير الشهرية للجمعية الملكية» أن الثقوب الدودية قد تُوجد في مركز بعض المجرات الساطعة جدًا، ويطرحون بعض المقترحات لرصدها.

من ذلك، أن الحسابات تظهر أن اصطدام المادة الخارجة من جانب واحد من الثقب الدودي بالمادة التي تسقط فيه قد يخلّف مشهدًا مذهلًا من أشعة غاما الساطعة، التي يمكننا رصدها باستخدام التلسكوبات.

قد يكون هذا المشهد لأشعة غاما هو وسيلتنا للتمييز بين الثقب الدودي والثقب الأسود، الذي كان يُفترض سابقًا أنه لا يمكن تمييزه من الخارج. لكن من المفترض أن تنتج الثقوب السوداء كمية أقل من أشعة غاما وأن تقذفها على شكل رشاش مائي، بينما يُقذف الإشعاع الناتج عن ثقب دودي على شكل كرة عملاقة.

مع أن الثقب الدودي المقترح في هذه الدراسة من النوع الذي يمكننا العبور خلاله، فرحلة كهذه قد لا تكون ممتعة، لأن مسارها سيكون قريبًا جدًا من مركز مجرة نشطة، حيث درجات الحرارة مرتفعة وستحرق كل شيء وتُهشّمه.

لكن الحال يختلف مع الثقوب الدودية الموجودة في أماكن بعيدة من مركز المجرة.

فكرة احتواء المجرات على ثقوب دودية في مراكزها ليست جديدة على الإطلاق، فمثلا الثقب الأسود الهائل في مركز مجرتنا درب التبانة، رُصد بعد مجهودات جبارة من تعقب مدارات النجوم القريبة منه، وهو الإنجاز المثير الذي استحق أصحابه عليه جائزة نوبل للفيزياء عام 2020.

لكن إحدى الأوراق البحثية الحديثة أظهرت أن تأثير الجاذبية الممارس على مدارات تلك النجوم قد يكون ناتجًا عن ثقب دودي.

بخلاف الثقب الأسود، قد يُسرّب الثقب الدودي مقدارًا من جاذبية الأجسام الموجودة على جانبه الآخر، وهذا سيضيف دفعة من الجاذبية لحركة النجوم القريبة من مركز المجرة. وفقًا لهذه الدراسة، يجب أن يكون التأثير المُضاف قابلاً للقياس والملاحظة في المستقبل القريب، وذلك بمجرد أن تصبح أدواتنا العلمية أكثر حساسية وتقدمًا، ولو بقليل.

يُصادف أيضًا أن دراسة حديثة أشارت إلى اكتشاف نوع غريب من “الإشارات الراديوية الدائرية” في السماء. هذه الإشارات الدائرية غريبة لأنها ضخمة وهائلة ولا ترتبط بأي شيء مرئي. حتى الآن، ما يزال هذا الاكتشاف يتحدى تفاسيرنا التقليدية، لذلك قُدمت الثقوب الدودية كسبب مُحتمل.

معضلة تنتظر الحل:

تسيطر الثقوب الدودية بقوة على خيالنا الجماعي، وبأسلوب ما، تزوّدنا بإحدى صور الهروب من الواقع المثيرة. على عكس الثقوب السوداء المخيفة التي تلتهم كل شيء. قد تسمح لنا الثقوب الدودية بالسفر إلى أماكن بعيدة أسرع من سرعة الضوء. لذا قد تكون في الواقع آلات زمنية للسفر إلى الماضي كما اقترح الراحل ستيفن هوكينغ في كتابه الأخير.

تُطرح فرضية الثقوب الدودية أيضًا في عالم فيزياء الكم، أي عالم القوانين التي تتحكم في سلوك الذرات والجسيمات. وفقًا لميكانيكا الكم، يمكن للجسيمات أن تخرج من الفضاء الفارغ (الفراغ الكمي) لفترة قصيرة ثم تختفي. وقد شوهدت هذه الظاهرة في تجارب لا حصر لها.

والسؤال الذي يطرح نفسه: إذا كان من الممكن تكوّن جسيمات من الفراغ الكمي، فلماذا إذن لا تنشأ الثقوب الدودية؟

يعتقد الفيزيائيون أن الثقوب الدودية قد تكونت في بدايات الكون من رغوة من الجسيمات الكمومية التي تظهر إلى الوجود لفترة قصيرة ثم تختفي. قد تكون بعض هذه “الثقوب الدودية البدائية” موجودة حتى اليوم.

أثبتت التجارب الأخيرة حول «الانتقال الآني الكمي» (Quantum teleportation) -وهي عملية نقل المعلومات الكمومية من موقع إلى آخر- أنها تعمل بطريقة تشبه بشكل مخيف ثقبين أسودين متصلين عبر ثقب دودي.

يبدو أن هذه التجارب تحل «مفارقة المعلومات الكمومية»، التي تشير إلى أن المعلومات الفيزيائية (كتلة، موضع، غزل، درجة الحرارة…) يمكن أن تختفي نهائيًا داخل الثقب الأسود. هذه التجارب تكشف أيضًا عن علاقة عميقة بين النظريات غير المتوافقة لفيزياء الكم والجاذبية، لذا قد تكون الثقوب الدودية مفيدة في بناء «نظرية كل شيء»، كونها رابطة وصل بين فيزياء الكم والجاذبية.

لا شك أن الثقوب الدودية لها دور في التطورات الرائعة التي تحصل في فيزياء العصر الحديث، وحتى إن لم نتمكن من رصدها الآن، فهذا لا يعني أنها غير موجودة في ركن ما من أركان هذا الكون الفسيح، كما أنها قد تُشكّل إضافة كبيرة تساعدنا مستقبلًا على فك أعمق الألغاز الكونية وفهمها، مثل ما إذا كان كوننا هو الوحيد أم أن هناك أكوانًا أخرى.

اقرأ أيضًا:

ما هو الثقب الدودي؟

محاولة لتوليف النسبية العامة مع ميكانيكا الكم عبر الثقوب الدودية، فهل تنجح؟

ترجمة: رضوان بوجريدة

تدقيق: رضوى رمضان

المصدر