خلال الحرب العالمية الثانية، تحاربت الولايات المتحدة واليابان وكانوا ألد الأعداء، لكن مع ذلك خلال الحرب الباردة وما بعدها، أصبحت اليابان أقرب لأمريكا وأكثر الحلفاء جدارةً في المنطقة الآسيوية للمحيط الهادئ. فكيف نجح هذا التحول من العداء إلى التحالف؟

من الصعب تخيل مثل هذا التحول العميق، فقد صُدمت أمريكا في ديسمبر 1941 بتفجير اليابان المفاجئ لميناء (بيرل هاربور)، مما أشركها في الصراع رسميًا. لاحقًا وبعد أربع سنوات، أسقطت الولايات المتحدة قنبلتان ذريتان مدمرتان على مدن هيروشيما وناغاساكي اليابانيتين مما أنهى الحرب فعليًا. ومن ثم، أُخضِعَت اليابان لاحتلال دام سبع سنوات بعد الحرب أدى الى تفكيك جيش الأّمة المهزومة وغيّر من هيكلها السياسي جذريًا.

لكن بعد الحرب، لم يكن يقتصر هدف الولايات المتحدة على توطيد السلام وإعادة بناء اليابان. فقد سعت القوى العظمى المزدهرة إلى مواجهة نظام عالمي جديد وتحويل دولة جزيرة المحيط الهادئ إلى حصنها الآسيوي ضد التوسع الشيوعي. ولذلك، شرع المحتلون الأمريكيون بدراسة آثار كوارث الحرب العالمية الأولى. إذ استفادوا من الحالة الاقتصادية التي التي كانت تدعو لليأس التي يعاني منها الشعب الياباني وخيبة الأمل من حكومته وجيشه لزرع بذور الديمقراطية وإعادة كتابة الدستور. وخلال كل ذلك، انتشر آلاف اللغويين اليابانيين-الأمريكيين في الاستخبارات العسكرية، إذ أثبتوا أهميتهم في التحول الذي أعقب الحرب وكانوا متخفيين سرًا خلال الحرب نفسها.

سمح الأمريكيون لإمبراطور اليابان تفادي المساءلة

أخذ الجنرال دوغلاس ماك آرثر (القائد الأعلى لقوات التحالف والمشرف على تحول اليابان بعد الحرب) العِبر المستفادة من معاهدات ما بعد الحرب العالمية الأولى على محمل الجد. فبدلًا من إذلال البلد المهزوم ومطالبته بدفع تكاليف الإصلاحات الهائلة كتلك التي سببت انهيار اقتصاد ألمانيا، مهدت الولايات المتحدة الطريق لعلاقة أكثر إيجابية في تعاملها مع اليابان المهزومة، وخاصة مع إمبراطورها.

خوفًا من حدوث مجاعة كبرى في البلد المُدمَر، نقل الأمريكيون الطعام جوًا لدرء أزمة إنسانية واضطرابات مُحتملة لاحقة. وعوضًا عن محاكمة الإمبراطور المتشدد هيروهيتو لجرائم الحرب، اتخذت الولايات المتحدة خطوة استراتيجية بالسماح له بالبقاء على عرشِه ليكون حاكمًا صوريًا، ما أسس رواية كونه تعرض للخيانة خلال الحرب من القوات العسكرية. وبالسماح لزعيم الأمة بالحفاظ على ماء وجهه، ارتأت إدارة الرئيس هاري ترومان أن الحاكم يستطيع تشجيع المواطنين بفاعلية أكثر على التعاون مع الاحتلال ومع المهمة الصعبة التي تنتظرهم: التحول من دولة إمبريالية متطرفة إلى دولة ديمقراطية.

وقد تجنّب ماك آرثر إحراج الامبراطور عبر إجباره على قراءة نص مُحَضَر بتشجيع من العقيد سيدني ماشبير في قسم مترجمي التحالف (ATIS) في استخبارات الولايات المتحدة وذلك وفقًا لجون تولاند مؤلف كتاب (الشمس المشرقة: هبوط وسقوط الإمبراطورية اليابانية).

صوت الإمبراطور ذو نبرة عالية ورسمية، وهو ما لم يسمعه المواطنون اليابانيون من قبل، وأُذيعت رسالته المُصممة بعناية والمسجلة مسبقًا في 15 أغسطس 1945، ولم تستخدم كلمة استسلام قط، بل تضمنت أن اليابان تختار السلام بدل الاستمرار في حرب أصبحت الآن على مستوى ذري وقد تمحو اليابان وتؤدي إلى انقراض بشري.

بعد عقود من إشباع الشعب الياباني بفضائل الإمبريالية والتوسعية، شدد الإمبراطور في خطابِه على الحاجة للزُهد والتواضع، إذ قال: «ستكون المصاعب والمعاناة التي ستخضع لها أمتنا مستقبلًا عظيمة بالتأكيد» وأنه على المواطنين اليابانيين «أن يتحملوا ما لا يُمكن تحمله ويطيقوا ما لا يُمكن أن يُطاق».

استسلم الإمبراطور رسميًا في الثاني من سبتمبر 1954 على متن سفينة USS Missouri في خليج طوكيو بإدارة الجنرال ماك آرثر.

في خضم فترة تحويل اليابان إلى مجتمع ديمقراطي، أدركت الولايات المتحدة أهمية رغبة العامة بالانخراط. أكدت الوثيقة التي تُحدد سياسة أمريكا بعد استسلام اليابان على أنه في حين «ترغب الولايات المتحدة في التزام هذه الحكومة بأكبر قدر ممكن بمبادئ الحكم الذاتي الديمقراطي، فليس لدول التحالف سلطة لأن تفرض على اليابان أي شكل من أشكال الحكم غير المدعوم من إرادة الشعب المعبر عنها بحرية».

مما لا شك فيه أن الحكومة العسكرية تحت قيادة ماك آرثر كانت تتمتع بسلطة وسيطرة واسعة في أثناء الإشراف على التحول الاقتصادي والاجتماعي والسياسي والثقافي في اليابان. ولكن وفقًا لتقارير هيئة الأركان العامة للجنرال، خدمت قوات الاحتلال بوصفها طبقة إضافية للهيكل المدني الحالي، وذلك لمساعدة الشعب الياباني على تجنب فقدان احترام الذات والثقة بالنفس، إذ شجعت المواطنين والمسؤولين المحليين على أخذ زمام المبادرة بقدر الإمكان في تنفيذ الإصلاحات المُخطط لها. ومع أن القوات الأمريكية كانت تُشرف على العمليات والعداء المتبادل كان مستمرًا، فإن معاملة القوات للمواطنين اليابانيين كانت مُحترمة ومدنية إلى حد كبير، ما ساهم ببناء الثقة وخدمة الأهداف بعيدة المدى.

الأدوار الحاسمة التي أداها جيل نيسيه خلال الحرب وبعدها

نشرت الولايات المتحدة سلاحًا سريًا في أثناء قتالها اليابان خلال الحرب العالمية الثانية، وهو الجيل الأول من اليابانيين-الأمريكيين نيسَيه) الذين عملوا لغويين في جهاز المخابرات العسكرية في المحيط الهادئ، كان أهلهم يابانيين مهاجرين وتحدث بعضهم اللغة اليابانية، خصوصًا الذين عادوا إلى اليابان لغرض التعليم قبل الحرب واسمهم كيبيه.

وقد جندتهم الولايات المتحدة توقعًا للصراع المُحتمل مع اليابان،ودربتهم لجمع المعلومات الاستخباراتية قبل تفجير بيرل هاربور، وقد استمرت خدماتهم حتى بعد الهجمة وما تبعها من سجن الأمريكيين ذوي الأصول اليابانية وتعرضهم التشكيك والتخوين.

خلال الحرب، راقب اللغويين من النيسَيه الاتصالات وترجموا الخرائط والمستندات وساعدوا في استجواب الأسرى، وفي عام 1944 تفاخر الجنرال تشارلز ويلوبي الذي (ترأس المخابرات لدى ماك آرثر) بأن خبير لغة واحد من (ATIS) يُعادل كتيبة مشاة، وقدّر أن اللغويين اليابانيين-الأمريكيين أسهموا في تقصير الحرب بسنتين.

ساهم النيسَيه أيضًا بدور مهم خلال فترة احتلال التحالف وإعادة بناء اليابان، إذ خدم الجزء الأغلب من 5000 خلال فترة الاحتلال بوصفهم جزءًا من فرق الحكومة العسكرية المخصصة لكل محافظة.

أثبت الكيبيه أهميتهم الخاصة لأنهم يفهمون مبادئ البلد التاريخية والاجتماعية السياسية والثقافية والدينية والاقتصادية والتعليمية والعملية بالصميم أكثر من غيرهم.
عمل النيسَيه والكيبَبه في أثناء الشهور القليلة الأولى المصيرية للاحتلال خلف الكواليس على مهمات كثيرة وأحيانًا مُعقدة. إذ عملوا على إعادة سجناء حرب الولايات المتحدة ودول التحالف وعلى إعادة الجنود اليابانيين والمواطنين ممن عاشوا في الخارج إلى وطنهم اليابان. وساعدوا أيضًا في إطلاق سراح السجناء السياسيين وشاركوا في البحث عن مجرمي الحرب إضافة إلى جمع الأدلة لمحاكمتهم. وراقبوا الجماهير للبحث عن أي علامات لمقاومة قد تُهدد تحول الأمة الديمقراطي.

وقد ساعدوا من الناحية المالية على تفكيك صناعات اليابان الحربية وتدميرها، وعملوا بجد على هدم التكتلات المالية والأسواق السوداء من وقت الحرب والجريمة المنظمة.

إعادة كتابة دستور اليابان

لعل أهم إسهامات النيسيه والكيبيه هي كتابة دستور اليابان الجديد، إذ احتوى 103 مادة تقريبًا ودخل حيز التنفيذ في 3 من مايو 1947. تضمنت أحكام الدستور الشاملة على إصلاحات الأراضي وحق النساء بالتصويت والتأسيس لحرية التعبير والتجمع والدين وإنشاء نقابات العمل، إضافة لإنشاء نظام تعليمي مشابه لنظام الولايات المتحدة.

كانت المادة التاسعة من الدستور الجديد ذات أهمية رئيسية، وفيها تخلت اليابان عن العدوان العسكري، ونصت على: «بتطلع خالص إلى السلام العالمي القائم على أسس العدل والنظام، يتخلى الشعب الياباني إلى الأبد عن الحرب بوصفه حق سيادي للدولة، وعن القيام بأية أعمال عدوان أو تهديد بواسطة العنف بوصفه وسيلة لحل النزاعات الدولية. ومن أجل تحقيق (هذه) الغاية لن تمتلك اليابان للأبد أية قوات برية أو بحرية أو جوية أو غيرها من القوات العسكرية، ولا تعترف الدولة بحقها في العدوان الحربي».

مع تحول الجغرافيا السياسية في مناطق المحيط الهادئ وأماكن أخرى على مر العقود، كانت المادة التاسعة محل نقاش في اليابان والدول في الخارج، لكن الدستور لم يُعدل قط.

اقرأ أيضًا:

كيف قسمت ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية؟

الدول المحايدة في الحرب العالمية الثانية، هل كانت محايدة حقًا؟

ترجمة: صفا روضان

تدقيق: رغد أبو الراغب

المصدر