نجح سيغفريد فينك منذ 30 عامًا بتبييض الأصباغ الموجودة في الخلايا النباتية، وإنتاج الخشب الشفاف لأول مرة، ونشر الطريقة في صحيفة متخصصة بمناقشة تقنيات الخشب سنة 1997.

وجد الباحث لارس برجلوند بعد عدة عقود حاجته إلى الخشب الشفاف لإجراء تجاربه. ألهم اكتشاف فينك برجلوند، الذي كانت لديه أفكار جديدة لتسخير قدرات الخشب الشفاف.

يعمل برجلوند عالمًا للمواد في معهد KTH الملكي للتكنولوجيا في السويد، وقد اختص بمركبات البوليمر في محاولة لإيجاد بديل أكثر فاعلية من البلاستيك الشفاف.

لم يكن برجلوند الوحيد الذي رأى محاسن استخدام الخشب، إذ كان الباحثون على الطرف الآخر من العالم في جامعة ماريلاند مشغولين بتحقيق هدف مُكمل لرؤية برجلوند، وهو تسخير قوة الخشب للإبداع والاختراعات الجديدة.

بدأت الأبحاث التي أجريت على هذه المجموعات طيلة السنوات الماضية تؤتي ثمارها. تُبين النتائج إمكانية استخدام الخشب الشفاف قريبًا في شاشات الهواتف الذكية عالية الأداء وفي تركيبات الإضاءة الناعمة المتوهجة واعتمادها -على سبيل المثال- ميزات هيكلية في النوافذ متغيرة الألوان.

يقول تشيليانج فو -عالم تكنولوجيا النانو في الأخشاب بجامعة نانجينج للغابات في الصين- الذي عمل في مختبر برجلوند عندما كان طالبًا في الدراسات العليا: «لا شك أن لهذه المادة مستقبلًا واعدًا»

يتكون الخشب من عدد لا يحصى من القنوات الرأسية الصغيرة، كأنها حزمة ضيقة من القش المربوطة معًا بالغراء.

تنقل هذه الخلايا الأنبوبية الشكل الماء والمواد المغذية داخل جميع أنحاء الشجرة. تُخلف الشجرة وراءها جيوبًا من الهواء بعد قطعها وتبخر الرطوبة.

يحتاج العلماء أولاً إلى تعديل أو التخلص من الغراء -المسمى اللجنين- لإنشاء الخشب الشفاف، الذي يجمع حزم الخلايا معًا ويزود الجذوع والفروع بمعظم ألوانها البنية الترابية.

يبقى هيكل أبيض حليبي من الخلايا المجوفة بعد تبييض لون اللجنين أو إزالته بطريقة أخرى.

يُعد الهيكل المتبقي معتمًا، لأن جدران الخلايا تحني الضوء بدرجة مختلفة عن الهواء الموجود في جيوب الخلايا، وهي قيمة تسمى مؤشر الانكسار.

إن ملء الجيوب الهوائية ببعض المواد -مثل راتنجات الإيبوكسي التي تحني الضوء بدرجة مماثلة لجدران الخلايا- تجعل الخشب شفافًا.

كانت المادة التي عمل عليها العلماء رقيقةً، ويبلغ سمكها عادةً أقل من ملليمتر إلى نحو سنتيمتر واحد.

تخلق الخلايا بنيةً قوية على شكل قرص العسل، والألياف الخشبية الصغيرة أقوى من أفضل ألياف الكربون، وفق عالم المواد ليانجبينج الذي يقود مجموعة الباحثين الذين يدرسون الخشب الشفاف في جامعة ميريلاند في كوليدج بارك.

يتفوق الخشب الشفاف على البلاستيك والزجاج بعد إضافة الراتنج، ففي الاختبارات التي تقيس مدى سهولة تكسر المواد أو كسرها تحت الضغط، كان الخشب الشفاف أقوى بنحو ثلاث مرات من المواد المصنعة من البلاستيك الشفاف، مثل الزجاج الشبكي، وأقوى بنحو 10 مرات من الزجاج العادي.

يُكمل ليانجبينج -الذي سلط الضوء على ميزات الخشب الشفاف في المراجعة السنوية لأبحاث المواد لعام 2023- قائلًا: «إن النتائج مذهلة، إذ قد تماثل قطعة من الخشب الزجاج بالقوة».

تعمل هذه العملية أيضًا مع الخشب الثخين، لكن الرؤية عبر تلك المادة أكثر ضبابية لأنها تشتت المزيد من الضوء.

وجد كل من ليانجبينج وبرجلوند -في دراستهما الأصلية التي أجريت عام 2016- أن الصفائح بثخانة ملليمتر واحد من الهياكل الخشبية المليئة بالراتنج، تمرر ما بين 80 إلى 90% من الضوء.

تنخفض نفاذية الضوء مع اقتراب الثخانة من سنتيمتر واحد. أفادت مجموعة برجلوند أن الخشب الذي تبلغ ثخانته 3.7 ملم -ما يُعادل ثخانة بنحو بنسين- ينقل 40٪؜ من الضوء فقط.

قد يُساعد شكل المادة النحيف وقوتها على أن تكون بديلاً رائعًا للمنتجات المصنوعة من قطع رقيقة وسهلة الكسر من البلاستيك أو الزجاج، مثل شاشات العرض.

على سبيل المثال، تستخدم الشركة الفرنسية Voodoo عمليةً مماثلة لإزالة اللجنين في شاشاتها الخشبية، ولكنها تترك القليل من اللجنين لإنشاء لون جمالي مختلف.
تُصمم الشركة أيضًا شاشات العرض الرقمية القابلة لإعادة التدوير والحساسة للمس لتُصبح جزءًا من منتجات أخرى، مثل لوحات عدادات السيارة واللوحات الإعلانية.

تجلت معظم الجهود البحثية في التركيز على الخشب الشفاف من الناحية المعمارية، مع استخدام واعد للنوافذ خاصةً.

يرى برودوت دار-مهندس الكيمياء الحيوية في المعهد الهندي للتكنولوجيا في فاراناسي- أن الخشب الشفاف عازل أفضل بكثير من الزجاج، لذلك قد يساعد المباني على الاحتفاظ بالحرارة أو التخلص منها.

استخدم دار وزملاؤه أيضًا كحول البولي فينيل أو PVA -بوليمر يستخدم في الغراء وتغليف المواد الغذائية- لاختراق الهياكل الخشبية، ما نتج عنه خشب شفاف يوصل الحرارة بمعدل أقل بخمس مرات من الزجاج، وفق ما أفاد الفريق في عام 2019 في مجلة Advanced Functional Materials.

توصل الباحثون أيضًا إلى تعديلات أخرى لزيادة قدرة الخشب على الاحتفاظ بالحرارة أو إطلاقها، وهو ما قد يكون مفيدًا للمباني الموفرة للطاقة.

أجرت سيلين مونتاناري مع زملائها -عالمة المواد في معاهد أبحاث RISE في السويد- تجارب على مواد متغيرة الطور، التي تنقلب من تخزين الحرارة إلى إطلاقها عندما تتغير من الحالة الصلبة إلى السائلة أو العكس.

وجد العلماء على سبيل المثال عبر دمج البولي إيثيلين جلايكول، قدرة الخشب على تخزين الحرارة عندما يكون دافئًا وإطلاقها بعد أن يبرد، وهو العمل الذي نشروه في مجلة ACS Applied Materials and Interfaces في عام 2019.

صناعة الخشب الشفاف:

توجد عمليتان أساسيتان لإنشاء الخشب الشفاف، إزالة اللون وتشريب البوليمر. يؤدي نقع أو تنظيف الألواح أو أقسام القشرة بمحلول تبييض إلى تغيير أو إزالة اللجنين المصطبغ.

وجد العلماء أن النوافذ الخشبية الشفافة مثلًا أقوى وتساعد على التحكم بدرجة الحرارة على نحو أفضل من الزجاج التقليدي، ولكن الرؤية عبرها ستكون ضبابية، وتشبه الزجاج المصنفر أكثر من النافذة العادية.

قد تُصبح الضبابية ميزةً إذا أراد المستخدمون ضوءًا منتشرًا، نظرًا إلى أن الخشب الثخين قوي. قد يكون الخشب حينها حاملًا جزئيًا للضوء، وفق برجلوند. قد يعمل الخشب سقفًا يوفر إضاءةً محيطة خفيفة للغرفة.

واصل هيو وبرجلوند البحث عن طرق لإضفاء خصائص جديدة على الخشب الشفاف.

اكتشف برجلوند وزملاؤه في KTH ومعهد جورجيا للتكنولوجيا منذ نحو 5 سنوات أنهم يستطيعون محاكاة النوافذ الذكية، التي قد تتحول من شفافة إلى ملونة لحجب الرؤية أو أشعة الشمس.

وضع الباحثون بوليمر كهربائي –مادة يتغير لونها بالكهرباء– بين طبقات من الخشب الشفاف المطلي ببوليمر كهربائي آخر لتوصيل الكهرباء.

أدى هذا إلى إنشاء لوح من الخشب يتغير من اللون الشفاف إلى اللون الأرجواني عندما يمرر المستخدمون تيارًا كهربائيًا صغيرًا عبره.

صبت الجهود مؤخرًا في تحسين استدامة إنتاج الخشب الشفاف. على سبيل المثال، تجنب استعمال الراتينج لملء السقالات الخشبية، لأنه منتج بلاستيكي مشتق من البترول.

اخترعت مونتاناري وزملاؤها بوليمرًا حيويًا بالكامل، مشتقًا من قشور الحمضيات بديلًا له.

دمج الفريق أولاً حمض الأكريليك مع مادة كيميائية مستخرجة من قشور الليمون والبرتقال، توجد في الزيوت العطرية وتُسمى الليمونين. عملوا بعد ذلك على تشريبها داخل الخشب الملطف بها.

حافظ الخشب الشفاف حيوي الأساس على خصائصه الميكانيكية والبصرية، متفوقًا على الخشب العادي من ناحية تحمل الضغط بنحو 30 ميجا باسكال وناقلية الضوء بنحو 90٪؜، وفق ما أفاد الباحثون عام 2021 في مجلة Advanced Science.

أعلن مختبر هيو مؤخرًا في مجلة Science Advances عن طريقة تبييض اللجنين الأكثر خضرة، مُعتمدًا على بيروكسيد الهيدروجين والأشعة فوق البنفسجية، ما يُقلل متطلبات الطاقة للإنتاج.

نظف الفريق أيضًا شرائح الخشب التي يتراوح ثخنها بين 0.5 إلى 3.5 ملم ببيروكسيد الهيدروجين، ثم تركوها أمام مصابيح الأشعة فوق البنفسجية لمحاكاة أشعة الشمس.

بيضت الأشعة فوق البنفسجية الأجزاء التي تحتوي على صبغة اللجنين، لكنها تركت الأجزاء الهيكلية سليمةً، ما ساعد على الاحتفاظ بقوة الخشب.

تُساعد هذه الأساليب الصديقة للبيئة على الحد من كمية المواد الكيميائية السامة، والبوليمرات ذات الأساس الأحفوري المستخدمة في الإنتاج.

ما يزال الزجاج العادي أقل ضرر للبيئة من الخشب الشفاف حاليًا، وفقًا إلى تحليل أجراه Dhar وزملاؤه في مجلة Science.

يقول الباحثون إن تبني خطط إنتاج صديقة للبيئة وتوسيع نطاق التصنيع خطوتان ضروريتان لدخول الخشب الشفاف إلى الأسواق الكبرى، لكن الأمر سيستغرق بعض الوقت.

يقول مونتاناري: «يتطلب منا تحقيق الاستدامة الابتعاد عن المواد ذات الأصل الأحفوري كليًا».

اقرأ أيضًا:

لأول مرة، اختراع ترانزستور كهربائي مصنوع من الخشب!

كلاهما صلب، لكن لماذا نرى من خلال الزجاج ولا يمكننا الرؤية من خلال الخشب؟

ترجمة: طاهر قوجة

تدقيق: ميرڤت الضاهر

المصدر