أربكت أصول انقطاع الطمث علماء الأحياء التطوري طوال السنوات الخمسين المنصرمة، وقد حاولت ثلاث دراسات جديدة حل الأحجية، لكن ربما السؤال الذي يجب علينا طرحه ليس عن سبب انقطاع الطمث، بل عن سبب تعمير المرأة مدة طويلة بعد سن الإنجاب، بخلاف إناث الأنواع الأخرى التي تموت عادةً بعد فقدانها القدرة على الإنجاب بفترة وجيزة.

في الآونة الأخيرة، استطاع رجل مسن يبلغ من العمر 96 عامًا أن يصبح أبًا! لا توجد امرأة يبلغ عمرها 96 قادرة على الإنجاب، ولا حتى 76 عامًا، يُعزى ذلك إلى أن المرأة تفقد قدرتها على الإنجاب بحلول سن الخمسين، ليس لأنها تصبح هرمة، أو أنها تسممت من المجتمع، بل لأنها تمر بمرحلة انتقالية بيولوجية مميزة تسمى «انقطاع الطمث».

تتوقف المبايض البشرية عن العمل غالبًا بحلول سن الخمسين، بيد أن النساء يعشن عادةً بصحة جيدة بعد الخمسين بعقود، ما يعارض النظرية التطورية التي تدّعي أن فقدان القدرة على الإنجاب يمثل نهاية السلالة، لمّا كان التطور لن يتمكن من انتقاء الجينات التي تعزز النجاة بعد توقف التناسل.

تنازع العلماء حول سبب وجود انقطاع الطمث لسنوات، ادعى بعضهم أنه سمة تطورت لدى أسلافنا عبر الانتقاء الطبيعي، وبنوا افتراضهم على حقيقة أن النساء اللاتي توقفن عن الإنجاب انحدر منهن عمومًا عدد أكبر من الأحفاد مقارنةً بالنساء اللاتي واصلن الإنجاب.

حسب «فرضية الأم»، يرى العلماء أن الأجدر بالأمهات المسنات تسخير جهودهن في الاعتناء بأطفالهن المولودين بالفعل، عوضًا عن إنجاب أطفال جدد، وأن ذلك قد يحمل فائدة جينية أكبر للأمهات الكبيرات في السن، نظرًا إلى أن خطر الإجهاض ووفاة الجنين والعيوب الخلقية ووفاة الأم في أثناء الولادة جميعها تزداد مع التقدم في العمر.

تشكك بعض الدراسات في هذه الفرضية، وترى أن مخاطر الإنجاب على المرأة المسنة قد لا تكون كبيرة كفاية لجعل انقطاع الطمث فائدة تطورية.

قدّم بعض العلماء تفسيرًا مختلفًا لانقطاع الطمث، إذ يرون أنه يعطي النساء فرصة للمساعدة في تربية أحفادهن.

تلك هي «فرضية الجدة» التي تزعم أن العيش طويلًا بعد سن الإنجاب قد يكون منطقيًا حال عززت الجدة فرص نجاة أحفادها وتكاثرهم، وهي بذلك تضمن بقاء جيناتها، من ضمنها الجينات المساهمة في التعمير، مثلًا، وجد باحثون درسوا السجلات السكانية في فنلندا قبل الثورة الصناعية أن احتمالية نجاة الأطفال حتى سن البلوغ كانت أكبر إذا كانت جداتهم على قيد الحياة، لذا قد يكون انقطاع الطمث استراتيجية تطورية ناجحة لأنها تؤدي إلى زيادة عدد الأحفاد الذين يمكنهم حمل جينات الجدة.

يقول المشككون في هذه الفرضية إن هذا ليس منطقيًا رياضيًا، إذ إن من وجهة النظر التطورية، ليس منطقيًا أن تتخلى المرأة عن فرصة إنجاب المزيد من الأطفال الذين يحملون نصف جيناتها، من أجل تحسين فرص نجاة أحفادها الذين لا يحملون سوى الربع.

يقول مايكل كانت، عالم أحياء تطوري من جامعة إكسيتر في إنجلترا: «تكمن المشكلة في أن فوائد الجدة ليست كبيرة كفاية لتفضيل توقف التناسل بين سن الأربعين والخمسين، حسب بيانات من مجتمعات جمع الطعام وغيرها من المجتمعات التي تتكاثر طبيعيًا. تفيد الجدات أحفادهن بالفعل، إلا أن المردود الجيني صغير مقارنةً بمردود إنجاب أطفال إضافيين».

اعتمد مايكل كانت وعالم الأحياء التطوري روفس جونستون من جامعة كامبردج على نظرية المباراة عند ادعائهما أن انقطاع الطمث نشأ نتيجة للتعارض التناسلي بين الأجيال. يُمنَع تكاثر الإناث اليافعات لدى معظم الأنواع التي تتكاثر بطريقة تعاونية، بخلاف المجتمعات البشرية التي تتكاثر فيها الإناث اليافعات وتتوقف المسنات عن الإنجاب.

يقول كانت: «الأمر مختلف لدى البشر مقارنةً بالرئيسيات الأخرى التي يمكنها العيش بعد سن الإنجاب، وذلك لعدم وجود تداخل في التكاثر بين الأجيال، إذ يتزامن في المتوسط توقف النساء عن الإنجاب مع بدء الجيل التالي بالتناسل».

يرى كانت وجونستون أن هذا منطقي، لأن الأنثى في المجتمعات البشرية -بخلاف الأنواع الأخرى- تنتقل عادةً إلى مجتمع شريكها -ظاهرة الانتشار الحيوي- حيث تصبح مهاجرة وأطفالها هم أقاربها الوحيدون جينيًا، من ثم لا توجد ميزة وراثية في أن تساعد حماتها على إنجاب المزيد من الأطفال، لأنها لن تشارك أي جينات معهم، ولكن تختلف المسألة مع المرأة المسنة التي تساعد زوجة ابنها على التكاثر، فهي بذلك تستفيد بتوريث 25% من جيناتها إلى أحفادها.

يقول كانت: «إذن الاستراتيجية المثلى للحماة هي التوقف عن التناسل وتجنب المنافسة، والسماح لزوجة الابن بالتكاثر ومساعدتها في ذلك. للمرة الأولى تُطرَح فكرة تطور البشر بهذا الانحياز الجنسي في الانتشار الحيوي، وتُتناول التأثيرات المترتبة على طريقة تسوية هذه النزاعات الأسرية».

ترى عالمة الأنثروبولوجيا كريستن هوكس من جامعة يوتا أن كانت وجونستون كانا على صواب في التركيز على النزاع بين الأجيال: «بإمكان الفيلة الإنجاب في سن الستين، وتنجب بعض الحيتان في سن الثمانين، لذا من الواضح أنه شيء يمكن ضبطه بالانتقاء الطبيعي، لذلك ينبغي أن يكون سبب عدم حدوث ذلك لدى البشر جزءًا من القصة».

لكن تعارض هوكس ادعاءهم بأن الانتشار الحيوي للإناث هو في الحقيقة نمط الإقامة الشائع لدى البشر والقردة، مشيرةً إلى أن نصف إناث الشمبانزي اليافعات في مركز جين غودال البحثي يبقين مع أمهاتهن، وأن الدراسات الأخيرة أظهرت أن أفراد مجتمعات البحث عن الطعام يمكثون مع عائلة الزوجة أيضًا.

بنى باحثو دراسة أخرى بحثهم على بيانات حصيلة 400 سنة من الولادات في كوستاريكا، وهم يعتقدون أن التعمير بعد سن الإنجاب يرتبط بعدد أكبر من الأطفال و -على النقيض من ذلك- بعدد أقل من الأحفاد، ما يدعم فرضية الأم على حساب فرضية الجدة.

تقول لورينا مادريغال، عالمة أنثروبولوجيا من جامعة جنوب فلوريدا: «لا نزعم أن الجدات لسن مفيدات في بعض المجتمعات، لكن يجب ألا نفترض أن نمطًا واحدًا ينطبق على جميع الحالات».

إذن السؤال هو: هل من الضروري اعتبار انقطاع الطمث تكيفًا مميزًا عند البشر؟ يعارض بعض العلماء ذلك، ويرون أن ما يحدث للنساء عند التقدم في العمر لا يختلف كثيرًا عما يحدث لإناث الأنواع الأخرى.

إذ تولد الإناث عند العديد من الأنواع بعدد محدد من البويضات، ثم يقل العدد تدريجيًا على مدى حياتهن، وبإمكانهن ادخار الطاقة في إصلاح البويضات التالفة، لكن إذا ادخرن الكثير من الطاقة في ذلك، قد لا يتبقى لديهن ما يكفي لأداء المهام الأخرى، نتيجةً لهذا التوازن التطوري، تنفد البويضات الصالحة لدى الإناث في نهاية المطاف، وتتوقف قدرة الأنثى على التعمير بعد ذلك على قدرة جسمها على مقاومة الشيخوخة، من ثم لا يوجد أمر مميز في حقيقة أن الإناث لدى كثير من الأنواع مثل الجرذان والفيلة بإمكانهن التعمير بعد انتهاء حياتهن التناسلية.

ليست بيانات التكاثر لدى القردة مكتملة، ولكن تبين البيانات المتوفرة أن إناث أقرب أقربائنا -قردة الشمبانزي والبونوبو والغوريلا وإنسان الغاب- يتوقفن عن الإنجاب تقريبًا في السن ذاته الذي تتوقف فيه إناث البشر: أواخر الثلاثينيات، ولكن الفرق أنهن يمتن بعد ذلك بفترة وجيزة.

تقول هوكس: «ما يميزنا عن القردة ليس سن فقدان القدرة على الإنجاب، بل عدم شيخوخة أجهزة الجسم الأخرى».

«لكن يبدو أن معظم الناس أكثر استعدادًا للإنصات إلى وجهة نظر كانت وجونستون، اللذان يظنان أن السؤال الحقيقي هو سبب توقفنا عن الإنجاب في سن مبكرة، لكنني أرى أن ذلك ليس الحال مقارنةً بأقاربنا الأحياء».

في العدد الأخير من مجلة Evolutionary Anthropology، أمعن ثلاثة علماء النظر في طبيعة انقطاع الطمث لدى البشر: دانييل ليفايتس من جامعة جنوب الدنمارك وأوسكار برغر من معهد ماكس بلانك للبحوث السكانية ولوري بينغامان لاكي من النظام العالمي لمعلومات الأنواع، وبدأوا بمقارنة بيولوجية البشر بنظيرتها لدى أقربائهم من الرئيسيات.

بعد مراجعة سجلات 66 نوعًا من الرئيسيات، وجد العلماء أن الأنثى تمكنت في جميع الحالات من العيش طويلًا بعد ولادتها الأخيرة، وتراوحت حياة الإناث بعد سن الإنجاب بين ما يمثل 25% و95% من حياتهن التناسلية.

إذا حصرنا نظرنا على هذه النتيجة، قد نرى أن انقطاع الطمث عند البشر ليس أمرًا مميزًا. بيد أن ليفايتس وزملاءه ينوهون بعدم الثقة بهذه المعطيات.

جُمِّعت معظم سجلات التعمير والولادة من حدائق الحيوانات، حيث تنعم الرئيسيات بالطعام حتى الشبع وعناية الأطباء البيطريين ولا تواجه تهديدات يومية من المفترسين، ورغم أن بيانات الرئيسيات التي تعيش في البرية شحيحة، فإنها تعطي صورة أقسى: إذ لا تنجو إلا نسبة صغيرة من إناث الرئيسيات بعد مرحلة الإنجاب.

يختلف الأمر في حالة البشر، إذ تشكّل النساء في سن انقطاع الطمث نسبةً كبيرة من مختلف المجتمعات، ولا يقتصر هذا على المجتمعات الغنية فقط، إذ ينطبق كذلك على المجتمعات الفقيرة مثل شعب الهادزا، وهم مجموعة من سكان تنزانيا يعيشون على جمع الفواكه وصيد الحيوانات البرية، إذ تمضي المرأة المتوسطة في مجتمع الهادزا قرابة نصف حياتها البالغة بعد سن الإنجاب.

مر عبيد ترينيداد بأكثر الظروف الموثقة قساوة على الإطلاق، إلى درجة أن كثافتهم السكانية كانت تتقلص باستمرار بسبب الموت المبكر، ومع ذلك، عاشت المرأة المتوسطة في مجتمع عبيد ترينيداد كذلك ثلث حياتها البالغة بعد إنجاب طفلها الأخير.

إذن يميز أمر ما إناث البشر عن إناث الرئيسيات الأخرى، السؤال هو: هل انقطاع الطمث هو الأمر الذي يميزهن أم أنه فقط أثر جانبي لشيء آخر تطور لدى أسلافنا؟

يملك البشر أدمغة كبيرة، وكلما زاد حجم الدماغ لدى الرئيسيات، يطول عمرها عادةً. قد يرجع هذا الرابط إلى حقيقة أن الأطفال ذوي الأدمغة الكبيرة يحتاجون إلى الكثير من الطاقة والجهد في أثناء الحمل وبعد الولادة، ما يفرض وتيرةً بطيئة نسبيًا على حياة الرئيسيات ذات الأدمغة الكبيرة، من ثم يرفع هذا المنوال احتمالية أن كبر حجم الدماغ هو ما أدى إلى انقطاع الطمث لدى البشر.

لا يوافق ليفايتس وزملاؤه هذا المنظور، إذ درسوا إناث الرئيسيات ومن ضمنهم البشر، وقارنوا حجم أدمغتهن بالسن الذي توقفن فيه عن الإنجاب، وسن وفاتهن. حتى بعد أخذ أدمغة البشر الضخمة في الحسبان، لا تزال أنثى البشر فريدة، إذ إنه بخلاف إناث الرئيسيات الأخرى، تتوقف النساء عن الإنجاب في سن أبكر من المتوقع، ويعشن حياة أطول من المتوقع.

لذلك توصل ليفايتس وزملاؤه إلى حقيقة أن إناث البشر يعشن عادةً حياةً طويلة جدًا بعد سن الإنجاب بخلاف إناث الرئيسيات الأخرى، وأنه لا يمكن تفسير ذلك فقط بعوامل مثل حجم الدماغ.

على مر التاريخ البشري، تشكل النساء اللاتي تجاوز عمرهن سن الإنجاب ما لا يقل عن ثلث المجتمع في أي وقت، وهي نسبة أعلى بعشرة أضعاف من رئيسيات حدائق الحيوان المدللة. إذن يبدو أن ثمة أمر مميز جدير بالتقصي حول انقطاع الطمث.

لتفسير هذا التحول التطوري الكبير، وضع العلماء فرضية: قبل ست ملايين سنة، كانت إناث أسلافنا أشباه البشر قادرة نظريًا على العيش بعد ولادتهن الأخيرة على غرار إناث الرئيسيات الأخرى، إلا أن ذلك لم يحدث إلا نادرًا، إذ تموت معظمهن قبل ذلك الوقت، ثم سلك أشباه البشر مسارًا تطوريًا غير عادي: طوّروا أدمغة كبيرة واكتسبوا قدرات جديدة مثل صناعة الأدوات متعددة الاستعمالات والتواصل اللغوي. ربما أتاحت لهم هذه العوامل العيش طويلًا، وبذلك أصبح عدد أكبر من الإناث يعشن طويلًا بعد سن الإنجاب.

وبعد ذلك، برزت فوائد الحياة بعد انقطاع الطمث، وأصبح بإمكان الانتقاء الطبيعي تفضيل الجينات التي تتيح للنساء العيش أطول، لما كانت النساء كبيرات السن قد يزدن فرص نجاة الأحفاد، وطوّرت النساء على مر الأجيال حياة طويلة يمضين جزءًا كبيرًا منها دون إنجاب الأطفال.

وفقًا لهذه الفرضية الجديدة، يُعَد انقطاع الطمث لدى البشر مميزًا، لكنه ليس فريدًا، إذ تستطيع إناث العديد من الأنواع العيش بعد سن الإنجاب، غير أن ذلك نادر الحدوث، ما يمنع التطور من فرصة إطالة تلك المرحلة من الحياة.

لكن إذا حصلت الحيوانات الأخرى على تلك الفرصة، فإنها قد تطور انقطاع الطمث أيضًا. بإمكان الحشرات كذلك الاستفادة من انقطاع الطمث، مثلًا، تتوقف أنثى حشرات المن الصفراوية اليابانية عن الإنجاب في منتصف حياتها، يمكنها بعدئذ استغلال فراغ بطنها في تصنيع مادة كيميائية دبقة، ثم عند تعرّض المستعمرة لهجوم، تسارع الإناث اللاتي تجاوزن سن الإنجاب إلى إلصاق أنفسهن على جسم المفترس للدفاع عن المستعمرة، فيختنق المفترس وتموت الإناث مضحيات بأنفسهن.

قد تختلف القوى التطورية المسؤولة عن انقطاع الطمث بين البشر وحشرات المن، إلا أن المحصلة ذاتها في الحالتين.

اقرأ أيضًا:

ماذا يعني انقطاع الطمث ، او ما يسمى ظلما بسن اليأس ؟ اعراض و نصائح هامة

اكتشف العلماء اثنين من الحيوانات التي تعاني من انقطاع الطمث أو ما يسمى سن اليأس، مثل البشر

ترجمة: رحاب القاضي

تدقيق: أسعد الأسعد

المصادر: 1 2