تُعد الرسائل والبريد وطرائق تسليمها، عبر نظام اتصالات الدولة، سمة من سمات العديد من الثقافات القديمة. ومع تنوع وسائل الكتابة، امتلكت الحضارات القديمة -مثل بلاد ما بين النهرين والمصريين واليونانيين والرومان والإنكا- طرائق لإرسال الرسائل والتواصل عبر مسافات طويلة وبسرعة كبيرة نسبيًا.

أنشِئت مواقع انطلاق حيث يمكن لسعاة البريد تناول الطعام والراحة وتغيير وسائل النقل وإيصال رسائلهم على مراحل. ومع أن النظام البريدي لم يكن موجودًا في العالم القديم، فإن العديد من الأفراد استخدموا نظام الاتصال الحكومي، أو استخدموا الأصدقاء والعبيد والتجار والمسافرين، لإرسال رسائلهم الشخصية عبر مسافات طويلة.

تحتوي الرسائل الناجية -مثل ألواح الطين ولفائف البردي- على منجم معلومات لا تقدر بثمن للمؤرخين المهتمين بمواضيع متنوعة مثل أسعار السلع الأساسية وأعراف الزواج والتركيبة السكانية الإقليمية. يمكن أيضًا تقييم موقف القدماء من الرسائل بناءً على كتيباتهم حول طرائق الكتابة الجيدة والمجموعات المنشورة لرسائل مكتوبة من قبل شخصيات معروفة.

الرسائل والبريد في الشرق الأدنى:

اتخذت الكتابات المسمارية في الشرق الأدنى القديم شكل ألواح طينية (مشوية أو غير مشوية)، وقد استخدمها الكتبة لتسجيل المعلومات الإدارية والمراسلات بين الحكام، سواءً كانوا حكامًا إقليميين تابعين أو نظراء أجانب.

اتسع نطاق الرسائل والبريد في النهاية ليشمل جميع الموضوعات من التاريخ إلى الشتائم. تغيرت المادة المستخدمة أيضًا، إذ أصبحت لفائف البردي هي الوسيلة المفضلة، وقد كُتب عليها باللغة الآرامية.

عادةً ما تحتوي الرسالة على اسم المرسل والمستلم في الأعلى، مع كتابة اسم الشخص الأكبر مقامًا أولًا، ويُذكر فيها أيضًا أن الرسالة ستُقرأ على المتلقي (لتغطية احتمال عدم تمكنه من قراءتها)، ثم يتبع ذلك مقطع من صيغة التحية الرسمية لمعظم الرسائل ثم نص الرسالة. وجرت العادة على الاحتفاظ بنسخ في السجلات الملكية للقصور في حال كانت الرسائل تتعلق بشؤون الدولة.

وُظف السعاة لإرسال الألواح واللفائف إلى وجهة معينة، وتضمنت مهمتهم -عند قيامهم بها للدولة- مسؤولية كبيرة، إذ كان الساعي مسؤولًا عن وصول الرسالة إلى حيث ينبغي.

لحسن الحظ، قدمت الدولة شبكة من أماكن التوقف والراحة وتغير وسائل النقل للسعاة الذين يعانون من ضغوط شديدة في العمل، ومضطرون للسفر لمسافات طويلة. اقتصرت المراسلات على الشخصيات الخاصة، وذلك على حساب المعنيين الذين لم يتمكنوا من استخدام نظام البريد الحكومي.

كان «الأنجاريون الفارسي» نظام الرسائل و البريد الأكثر شهرة في الشرق الأدنى، وكان يحتوي على أماكن توقف للسعاة تقع على بعد يوم واحد. دفعت المجتمعات المحلية ثمن الشبكات التي مرت عبرها وتكاليف صيانتها، وزودت السعاة بحصصهم الغذائية ووسائل النقل، شرط أن يُظهروا وثيقة المرور الرسمية المختومة.

الرسائل والبريد في مصر القديمة:

كما هو الحال في الشرق الأدنى، كتب المصريون الرسائل المصرية على ألواح طينية وورق البردي. ونُحتت بعض هذه الرسائل أيضًا على مسلات حجرية وكُتبت بعدة لغات، لا سيما الأكادية. وكانت المراسلات بين الحكام غامضة بنحو غريب ومليئة بالصيغ التعبيرية والكلمات الجذابة وعبارات الثناء.

إحدى السمات المثيرة للاهتمام في المراسلات المصرية هي استخدام قوالب نموذجية للكتاب الأقل ثقة أو الأقل خبرة للنسخ منها. وكما هو الحال في الشرق الأدنى، كان المسؤولون حريصون على الاحتفاظ بنسخ من الرسائل المهمة لحماية أنفسهم في حال خسارتها، خاصة في المعابد والقلاع المصرية.

في فترة المملكة الجديدة، سُلمت الرسائل الملكية باستخدام نظام من السعاة الذين استخدموا العربات التي تجرها الخيول للتنقل بأسرع وقت ممكن، وزُوِّدوا أيضًا بمحطات منتظمة لتغيير الخيول واسترداد عافيتهم، وتنقل بعضهم بالقوارب أسفل النيل وروافده.

تعاملت شبكة البريد والرسائل الثانية مع المراسلات الإدارية للولاية، التي كانت تسلسلًا هرميًا من سعاة يسلمون الرسائل صعودًا وهبوطًا على مختلف مستويات الحكومة المحلية. ويُخيل إلينا أن الأفراد العاديين تمكنوا من إرسال الرسائل لبعضهم بعضًا من حين لآخر، ولكن لم يكن لديهم وسائل مخصصة لتوصيلها. فكان خيارهم الأفضل هو إما استخدام العبيد أو تمريرها إلى المسافرين الموثوق بهم الذين تصادف طريقهم مع وجهة الرسالة.

الرسائل والبريد في المجتمع اليوناني:

كانت إلياذة هوميروس هي أول نموذج رسالة في العالم اليوناني، وقد كُتبت في وقت ما في القرن الثامن قبل الميلاد، إذ يرسل «برويتوس» لوحًا مطويًا إلى «بيليروفون». بعد ذلك، يصف «هيرودوت» -الذي كتب في القرن الخامس قبل الميلاد- سلسلة من المراسلات بين الملك أماسيس الثاني «أحمس الثاني» والطاغية بوليكرات (نحو 522 ق.م).

كان أقدم نموذج مادي للرسائل اليونانية هو ثلاثة ألواح رقيقة من الرصاص يعود تاريخها إلى عام 500 ق.م. وشملت المواد الأخرى المستخدمة في كتابة الرسائل قطع الفخار والحجر الجيري، جلود الحيوانات، الألواح المغطاة بمزيج من شمع العسل والكربون، والألواح الخشبية ذات السطح المعتم أو المخفف. وفي مصر، كانت رسائل البردي هي الشكل المفضل لكتابة الرسائل.

قام اليونانيون عادةً بجمع وثائقهم البريدية على شكل صحائف بدلًا من لفائف، وربطوها بخيط ثم ختموها للتأكد من أن المستلم المقصود فقط هو من سيقرأها. كانت الأقلام مصنوعة من القصب وتغمس بالحبر، ولكن الكتابة على الشمع أو الألواح الطينية تطلبت استخدام مرقم. لم توجد شبكة للرسائل والبريد في اليونان القديمة، ولكن كان هناك رسل متخصصون وسفن مخصصة لهم.

أحد أكثر مصادر المعلومات إثارة للاهتمام في الرسائل اليونانية هي تلك التي أرسلها الملوك الهلنستيون (التي نقل العديد منها إلى مسلات حجرية)، وكانت مفيدة خصوصًا لتغطيتها للإدارات الملكية وكيفية تشجيع المؤسسات والممارسات اليونانية عبر البحر الأبيض المتوسط في الولايات التي تشكلت بعد انهيار إمبراطورية الإسكندر الأكبر323 ق.م. أنشأت الممالك الهلنستية شبكة بريدية يعمل بها الأثرياء، واحتفظوا بها شكلًا من أشكال الضرائب.

الرسائل والبريد في المجتمع الروماني:

استمر الرومان -رجالًا ونساءً من جميع الأعمار- في استخدام البردي لرسائلهم واستخدموا أحيانًا الرق والجلد المدبوغ. حُزمت رسائل البردي وخُتمت، وقد تتخذ الأختام شكل بضعة خطوط حبر مرسومة فوق الجزء العلوي من الخيط والورق.

منذ القرن الثالث قبل الميلاد، ازداد استخدام الرسائل الشخصية ازديادًا ملحوظًا، على الرغم أن المرسلين تعيَّن عليهم إيجاد وسائلهم الخاصة للإرسال، مثل الأصدقاء والعبيد والمسافرين الموثوق بهم كالتجار. من ناحية أخرى، يمكن لأباطرة الدولة ومسؤوليها الاستفادة من نظام البريد الحكومي. ويعود الفضل إلى سونيوس (نحو 69 – 130/140 م) في إنشاء النظام البريدي الروماني، الذي يمكن وصفه بدقة كنظام اتصالات، حتى يتمكن من حكم إمبراطوريته الواسعة بنحو أفضل.

استخدم النظام في البداية سعاة ذهبوا على طول الطريق من المرسل إلى المتلقي، ثم -لاحقًا- على شكل وفود منهم. قُدِّمت المؤن ووسائل النقل الحديثة للسعاة في المحطات العادية على طول 120,000 كيلومترًا من شبكة الطرق، مما سمح للرسائل بالسفر نحو 80 كيلومترًا يوميًا.

نادرًا ما كانت تؤرخ الرسائل الرومانية، وعادةً ما تبدأ ببعض عبارات التحية وتمني السلامة للمتلقي. قد تكون التحية الختامية طويلة جدًا، فكان لا يزال شائعًا إملاء الرسائل، ولكن قد يضيف المرسل أحيانًا بعض الأسطر الخاصة في النهاية. ربما كان من الغريب، بحسب نظرتنا الحديثة للكتابة، أنه من النادر أن تعبر الرسائل عن أي تفاصيل وأفكار وآراء شخصية، فاقتصرت على الحقائق والأحداث فقط.

ومع ذلك، ظهر عدد قليل من الكتب التي تحتوي على رسائل لشخصيات بارزة، ولا سيما «شيشرون»، و«بليني الأصغر» والإمبراطور «جوليان». وقد كتب الرومان كتيبات بها عينة من الرسائل والتعليقات الأكاديمية حول كيفية كتابة الرسائل الجيدة، ومن الأمثلة على ذلك عمل «يوليوس فيكتور» في القرن الرابع الميلادي، وتشير الدلالات إلى وجود معلمين لكتابة الرسائل. وطُورت أيضًا اتفاقيات تنص على وجوب رد الناس على الرسائل التي تلقوها، وتوجد العديد من النماذج الناجية لرسائل رومان يشتكون فيها من عدم تلقيهم أي رد، و يرجح أن ذلك يعود لمخاطر السفر والرسائل التي فقدت على الطريق، وليس إهمالًا من المتلقي.

الرسائل والبريد في الإمبراطورية البيزنطية:

يُعتقد بأن الناس قد استوحوا وقتها رسائلهم من رسائل القديس بولس وقديسين آخرين، وقُدِّست بعض الرسائل في الإمبراطورية الرومانية الشرقية (التي أصبحت تُعرف باسم الإمبراطورية البيزنطية)، لدرجة أنها كانت تتلى على الحشود.

كما كان للنظام البريدي الحكومي أهمية كبيرة، إذ عُيِّن واحد من بين أكبر ثلاث وزراء في القسطنطينية ليكون مسؤولًا عنه، وأُلفت الكتيبات لتوجيه الناس لطرائق الكتابة الصحيحة.

بالنسبة إلى البيزنطيين، يجب أن تتضمن الرسالة الجيدة ثلاثة عناصر: الإيجاز والوضوح واللباقة. واقتضت العادة أيضًا وضع القليل من الإضافات لتجميل الرسالة مثل إضافة اقتباسات مكتوبة بدقة وأمثال وأحجيات في الهوامش. كما حرصوا على ترك أفضل انطباع ممكن، فكانوا غالبًا يرسلون هدية مع رسائلهم، كالفاكهة أو الملابس أو الأحجار الثمينة، وكانت تقدم الرسائل مع الهدية في سلال خاصة.

الرسائل و البريد في الصين وحضارة الإنكا:

لا يمكن تغطية جميع المعلومات عن الرسائل والبريد في الحضارات القديمة كلها في لمحة عامة مختصرة، ولكن يجب على الأقل إضافة لمحة بسيطة عن ثقافتين أُخريين طورتا شبكات اتصالات متطورة وسريعة خاصة بهما خارج البحر المتوسط، ألا وهما حضارتي الصين والإنكا.

استخدم الصينيون الحبر والورق للكتابة منذ القرن الثاني الميلادي، وكانت لهم شبكات اتصالات موجودة إلى حد ما خلال فترة الولايات المتحاربة وذلك في عهد أسرة هان (206 ق.م – 220 م)، إذ تطلب حكم إمبراطورية واسعة وجود شبكة اتصالات سريعة وموثوقة، وقيل أن رسلهم كانوا قادرين على نقل الرسائل الإمبراطورية بسرعة 480 كيلومترًا في اليوم. وفي فترة حكم عائلة سونغ (960-1279 م) وُفِّرت أكثر من 1600 محطة انطلاق يمكن للرسل الاستفادة منها.

في أمريكا الجنوبية، لم يكن للإنكا أي رسائل لتسليمها سوى سجلات اتخذت شكل خيوط مربوطة ومعقدة، ورغم ذلك كان لهم نظام بريدي رائع.

عمل الرسل (الذين أُطلق عليهم اسم تشاسكي أو تشاسكيس) على مراحل، مُمررين المعلومات شفهيًا إلى عداء جديد يتمركز على بعد 6-9 كيلومترات. وبهذه الطريقة يمكن للرسائل قطع مسافة 240 كم في يوم واحد على طول شبكة يبلغ مجموعها 40,000 كم من الطرق المشيدة لهذا الغرض.

من الواضح أن أجدادنا في كل مكان تقريبًا كانوا مهتمين تمامًا -كما نحن اليوم- بإرسال واستقبال الرسائل والبريد بأسرع ما يمكن وبموثوقية عالية، فبنوا شبكات اتصالات رائعة سنعجز عن تطبيقها في يومنا هذا لو فشلت تقنيتنا الحديثة.

اقرأ أيضًا:

لمحة عن تاريخ وسائل النقل

لمحة تاريخية عن الكتابة

ترجمة: لُجين الحفار

تدقيق: رغد أبو الراغب

مراجعة: حسين جرود

المصدر