لا يأبه سكان معظم الدول الغنية بأخبار قدوم لجان صندوق النقد الدولي إلى بلدانهم، ولكن هذا الخبر يثير الذعر في الدول الفقيرة مثل الدول الأفريقية، فما سبب الاختلاف بين الحالتين؟

يؤدي التاريخ دورًا هامًا في هذا الاختلاف، فبسبب ضغط صندوق النقد الدولي على الحكومات، يعاني سكان معظم الدول الأفريقية من تخفيض حكوماتهم الإنفاق على برامج الدعم والقضايا الاجتماعية، بالإضافة إلى طرد عمال القطاع العام من وظائفهم ورفع الضرائب.

على سبيل المثال، وفق دراسة أجرتها منظمة أوكسفام عام 2021، شجع صندوق النقد الدولي 33 دولة أفريقية على تبني سياسات تقشفية بعد جائحة كوفيد، أما في معظم الدول الغنية -بوجود استثناءات قليلة مثل اليونان- لم يؤثر صندوق النقد الدولي بنحو مباشر على حيوات السكان إطلاقًا.

ويأتي الاختلاف أيضًا بسبب قلة المعلومات، فعندما تذهب لجنة من صندوق النقد الدولي إلى دولة ما، لا يحصل عامة الناس سوى على معلومات قليلة عن سبب الزيارة أو نتائجها، وفي بعض الحالات يأتي قلق الناس من شعورهم بمحدودية قدرتهم على التأثير في نتائج الزيارة أو أثرها في حيواتهم.

مسؤوليات صندوق النقد الدولي:

تتضمن أهداف صندوق النقد الدولي وفق اتفاقية تأسيسه تعزيز التعاون النقدي بين الدول الأعضاء (190 دولة) لكي تدير اقتصاداتها الكلية وعلاقاتها المالية بنحو أكثر استدامة، ما يجب أن يساعدها في تحقيق معدلات توظيف ودخل حقيقي مرتفعة والحفاظ عليها بالإضافة إلى تنمية مواردها المنتجة.

يمول صندوق النقد الدولي الدول التي لا تملك نقدًا أجنبيًا كافيًا لاحتياجاتها ومستلزماتها لكي لا تلجأ هذه الدول إلى اتخاذ إجراءات تؤثر سلبًا في الازدهار الوطني والعالمي.

يرسل صندوق النقد الدولي موظفيه إلى الدول الأعضاء لكي يؤدي مسؤولياته -نظريًا- وفق نوعين من المهمات.

صندوق النقد الدولي ومهمات الرقابة:

النوع الأول لمهمات صندوق النقد الدولي مهمات الرقابة، ووفق المادة الرابعة من اتفاقية تأسيسه، يجب على صندوق النقد الدولي تطبيق رقابة صارمة على جهود الدول الأعضاء لكي يوجه سياساتها الاقتصادية والمالية نحو نمو اقتصادي منظم ومتزامن مع استقرار أسعار ملائم.

لذلك يرسل صندوق النقد الدولي لجانًا دوريًا (عادةً سنويًا) إلى الدول الأعضاء لتقييم الاقتصاد الكلي للدولة والمخاطر التي تواجهها ومقدرتها على الاستمرار بالتطور بنحو مستدام، وعادةً ما تجتمع اللجان في كل دولة مع المسؤولين في وزارة المالية والمصرف المركزي.

إضافةً إلى ما سبق، يمكنها طلب الاجتماع مع مسؤولين حكوميين آخرين. مثلًا، قد يطلب صندوق النقد الدولي الاجتماع مع المسؤولين عن قطاع الصحة في الدول خلال جائحة كوفيد، وعادةً ما يجتمع موظفو صندوق النقد الدولي مع أعضاء مجلس الشعب وممثلي الشركات والعمال، وقد يجتمعوا أيضًا مع ممثلي المجتمع المدني.

توجد 4 نقاط يجب الإضاءة عليها في مهمات الرقابة:

  •  يزود صندوق النقد الدولي موظفيه بإرشادات، ولكنه لا يلزمهم باتباع أية إجراءات محددة تخص إخبار الجهات المعنية بأنهم يزورون الدولة، ولذلك يصعب على من تعنيه الزيارة معرفة كيف قد يؤدي دورًا في المهمة أو كيف سيزود اللجنة بالمعلومات.
  •  لا يوجد حدود للقضايا التي يمكن للجنة صندوق النقد الدولي التركيز عليها في مهمتها، لذلك يمكن للجنة صندوق النقد الدولي طرح أية مسألة وطلب جميع المعلومات التي يرونها لازمة لتقييم حالة الاقتصاد على الصعيد الكلي في الدولة، ما يؤدي إلى تزايد تدريجي في أعداد المسائل التي قد تطرحها لجنة صندوق النقد الدولي في مهمات الرقابة، ابتداءً بالسياسة المالية والتضخم ومعدلات البطالة وعجز ميزان المدفوعات وانتهاءً بآليات كيفية تعامل الدولة مع التغير المناخي والتمييز الجنسي والصحة العامة وتفاوت الثروة.
  •  نتيجة المهمة تقرير تعده اللجنة ويناقشه مجلس المدراء التنفيذيين في صندوق النقد الدولي، وعادةً ما يُنشر التقرير للعموم بعد النقاش بالتزامن مع مؤتمر صحفي.
  •  يقدم صندوق النقد الدولي للحكومة توصيات تخص الإجراءات التي يراها مناسبة لمواجهة التحديات المحتملة، ولكن هذه التوصيات ليست أكثر من نصائح غير ملزمة، وتستطيع الحكومة تجاهلها. مثلًا: في حالة ثقة الحكومة بأنها لن تحتاج إلى التمويل من صندوق النقد الدولي مستقبلًا، لذلك لا يهتم عادةً سكان الدول الغنية بمهمات صندوق النقد الدولي إلى بلدانهم.

تجاهل توصيات صندوق النقد الدولي رفاهية لا تستطيع تحملها الدول التي قد تحتاج إلى التمويل منه، أو الدول التي قد يتأثر حضورها في الأسواق المالية العالمية بنظرة صندوق النقد الدولي لها، كما في حالة معظم الدول الأفريقية.

صندوق النقد الدولي ومهمات التمويل:

مهمات التمويل هي النوع الثاني لمهمات صندوق النقد الدولي، وتنجم عن طلب الحكومة، والهدف منها تقييم حاجة الدولة للدعم المالي والمفاوضة على شروط الحصول على التمويل.

يُعدُّ صندوق النقد الدولي الملاذ الأخير للاقتراض، ولذلك تتجنب الحكومات طلب الاقتراض منه إلا إذا لم تستطع الحصول على ما يكفي من النقد الأجنبي من مصادر أخرى.

يقرض صندوق النقد الدولي الدول دون ضمان أو رهن، ويحاول التيقن من استعادة أمواله بشُروطه، أي باشتراط اتخاذ الدول بعض السياسات لتحصل على التمويل، وأساس الشُروط أن الدولة تنفق أكثر من مواردها، وعليها تخفيض الإنفاق لكي يتلاءم مع مستوى الدخل مضافًا إليه قرض صندوق النقد الدولي، أي أن صندوق النقد الدولي يطلب من الدولة التضحية.

هذا يعني أن شُروط صندوق النقد الدولي لمنح التمويل أمر جدلي تختلف الآراء حوله، وذلك لسببين رئيسيين هما:

أولًا: لا يمكن بسهولة تحديد مدى التضحيات المطلوبة لإنعاش اقتصاد دولة ما بسبب اختلاف وجهات النظر حول مسببات الأزمة فيها من جهة، وتباين التوقعات حول المجريات الاقتصادية مستقبلًا من جهة أخرى، إضافةً إلى مقدرة الحكومة على وضع سياسات جديدة وتطبيقها وقبول الجمهور وتفاعله معها.

ثانيًا: لا تكمن المشكلة فقط في اتساع مدى الشُروط التي يختارها صندوق النقد الدولي وعددها وأحكامها لكي يقبل منح التمويل للدولة، بل أيضًا في التفاصيل التي قد يتدخل بها. مثلًا: قد يحدد صندوق النقد الدولي حجم تخفيض الميزانية الحكومية أو زيادة الإيرادات الحكومية ويترك قرار كيفية تطبيق هذه النقطة للحكومة، وقد يختار بنودًا من الميزانية الحكومية لتخفض الحكومة الإنفاق عليها، وقد يحدد أي نوع من الضرائب يجب رفعه والإصلاحات الهيكلية التي يجب تطبيقها لكي يقبل صندوق النقد الدولي إقراض الدولة.

بناءً على ما سبق، نستنتج أن شُروط صندوق النقد الدولي خاضعة للمفاوضات بينه وبين حكومة الدولة التي تطلب القرض، وتعتمد هذه المفاوضات على ميزان قوة التفاوض بين الطرفين، ما يعني أن صندوق النقد الدولي يؤدي دورًا فاعلًا في عملية صناعة القرار الاقتصادي المحلي في الدّول المحتاجة إلى التمويل منه.

أخيرًا، لا يخضع صندوق النقد الدولي لذات الضوابط القانونية فيما يخص الشفافية والمساهمة المطلوبة من الأطراف الأخرى التي قد تؤدي دورًا أيضًا، بالإضافة إلى تحمله مسؤولية قليلة أمام المتأثرين من قراراته (أي الشعوب) مقارنةً بالمسؤولية (أو اللوم) التي تتحملها الحكومة.

اقرأ أيضًا:

هل يمكن أن يفقد الدولار موقعه بوصفه عملة احتياط؟

اضطرابات سوق الأسهم وانخفاض مؤشرات وول ستريت

هل تتيح الأزمة الاقتصادية لألمانيا فرصة لتغيير سياساتها؟

ترجمة: كميت خطيب

تدقيق: غُفران التميمي

المصدر