أكدت تجربة «بيوتي» في مصادم الهدرونات الكبير وجود عيوب في أفضل التفسيرات لفيزياء الجسيمات. أوضحت نتائج سابقة لمقارنة بيانات المصادم بالنتائج المتوقعة من المحاكاة القياسية وجود تعارض بـ 3 درجات للانحراف المعياري، لكننا نحتاج إلى المزيد من البيانات لنعلن بثقة وجود فيزياء جديدة.

ازدادت هذه الثقة بعد نشر بيانات جديدة، إذ كانت نسبة التيقن من صحة البيانات إحصائيًا 3.1 سيغما، لكن تبقى نسبة 1 من 1000 لاحتمالية التعامل مع بيانات غير دقيقة، لا بيانات تشير إلى وجود فيزياء جديدة للجسيمات.

سابقًا، استُخدم مصادم سيرن للجسيمات فائقة الحجم ومصادم الهادرونات، وألمحت التجارب إلى شيء غير متوقع، هو انقسام جسيم «بيوتي ميسون» بطريقة مغايرة للمتوقع.

هذا يعني أحد احتمالين، إما أن توقعاتنا خاطئة، وإما أن البيانات الصادرة غير دقيقة. ونظرًا إلى أن طرق القياس الحديثة تقلل احتمالية الصدفة والأخطاء غير المدروسة، فإن هذا يجعل العلماء متحمسين للنتائج الجديدة.

أخذ فريق من الفيزيائيين بيانات المصادم التي نتجت من جسيم «بيوتي ميسون»، ودرسوا احتمالات النتائج حال تغير أحد الافتراضات التي تشير إلى تلاشي الجسيم، وافتراض ظهور التفاعلات بعد تحول الجسيم. كانت النتائج صادمة، وأكد تغير الافتراضات وجود شيء غريب يحدث على المستوى الذري.

في الفيزياء، تُعد النتائج الخارجة عن المألوف شيء محبذ، لأن الحصول على أرقام غير متوقعه قد يكون نافذة على تصورات جديد في الفيزياء. لكن في الوقت ذاته، يتعامل الفيزيائيون بتحفظ، إذ يجب التروي عندما تصبح القوانين الأساسية للكون على المحك.

عندما لا تتطابق النتائج التجريبية تمامًا مع النظرية، نفترض بدايةً وجود خطأ معين في الحسابات الإحصائية لعملية الفحص المعقدة.

ومع تكرار التجربة، يمكن جمع بيانات كافية لمقارنة فرص الخطأ باحتمال وجود اكتشاف جديد مثير للاهتمام. إذا انحرفت النتائج عن التوقعات 3 درجات معيارية -ما يُسمى 3 سيغما- ينظر الفيزيائيون إلى النتائج بحماس، وتُعد ملاحظات علمية.

كي تجذب النتائج الانتباه يجب أن يبلغ الاختلاف خمس درجات معيارية، لتُعلن بوصفها نتائج فيزيائية خارجة عن المألوف.

خلال السنوات الماضية استُخدم مصادم الهدرونات الكبير للحصول على جسيمات «ميسون»، بهدف مشاهدة ما يحدث بعد تكونها مباشرةً.

الميسونات نوع من الهادرونات، وهي قريبة من البروتونات، لكن بدلًا من احتوائها على 3 كواركات في بناء ثابت وترابط ذري قوي، فإنها تمتلك اثنين فقط: كوارك وكوارك مضاد.

حتى أكثر الميسونات استقرارًا تتلاشى خلال جزء من الثانية. يصف الإطار المستخدم لوصف بناء الذرات وتلاشيها -النموذج المعياري- ما نتوقع مشاهدته عند انقسام الميسونات.

يُعد جسيم «بيوتي ميسون» كواركًا سفليًا متصلًا بمضاد كوارك قاعي. بالنظر إلى خصائص الجسيم في النموذج المعياري، فإن تلاشي جسيم ميسون يجب أن ينتج أزواجًا من الإلكترونات والبوزيترونات، أو الميونات الشبيهة بالإلكترونات ومضاداتها: الميونات المضادة.

يجب أن تكون نسبة الإلكترونات إلى الميونات الناتجة 50:50، لكن النتائج الفعلية مختلفة، إذ تشير إلى وجود الكثير من الإلكترونات والبوزيترونات مقارنةً بالميونات ومضاداتها.

عند مقارنة النتائج بالنموذج المعياري نجد انحرافًا معياريًا بمقدار درجتين. وبأخذ العوامل الأخرى بالحسبان، قد يكون الاختلاف أكبر من ذلك، ما يمثل انحرافًا حقيقيًا عن نماذجنا.

لكن ما مدى ثقتنا بأن هذه النتائج دقيقة ومعبرة عن الواقع، وليست عيبًا في القياس؟ إن كان الانحراف المعياري أقل من 5 سيغما، فمن المحتمل أن الاختلاف عن النموذج المعياري لا يمثل شيئًا مهمًا على الإطلاق.

النموذج المعياري هو بناء محكم، صُمم على مدار عقود من العمل على أساسيات النظريات الموضوعة في هذا المجال، التي بدأها العالم ماكسويل، وتُعد خريطةً لرؤية العوالم دون الذرية غير المرئية.

لكن هذا النموذج لا يخلو من أخطاء، إن الكثير مما اكتُشف في الطبيعة مثل المادة المظلمة وكتلة النيوترينو لا تتبع النموذج المعياري للفيزياء.

في مثل هذه الظروف يعدل العلماء الافتراضات الأساسية للنموذج ليتمكنوا من فهم النتائج.

يقول الفيزيائي داني ديك من جامعة زيوريخ: «افترضنا سابقًا أنه عندما يتلاشى جسيم الميزون، لا يحدث أي تفاعل بين نواتج التحلل، لكن حديثًا أُدخل في حساباتنا تأثير إضافي: تأثير المسافة البعيدة أو ما يُسمى تشارم لوب».

تفاصيل هذا التأثير غير معروفة تمامًا، ولم يؤخذ بعد في الحسبان ضمن النموذج المعياري.

باختصار، يتضمن هذا التأثير تفاعلات معقدة للجسيمات الافتراضية -الجسيمات التي لا تبقى طويلًا، لكنها متضمنه في مبدأ عدم اليقين لفيزياء الكم- وتفاعلات نواتج التحلل بعد انفصالها.

من المثير للاهتمام أنه حال تفسير تحلل جسيمات ميسون بواسطة «تشارم لوب»، تقفز درجة انحراف البيانات إلى 6.1 سيغما.

مع هذا، لا يمكننا أن نعد ذلك اكتشافًا جديدًا، إذ ما زلنا بحاجة إلى المزيد من البحث لنتحقق من دقة هذه النتائج.

يقول مارسين من جامعة زيوريخ: «قد يُصبح لدينا قدر كاف من الأدلة خلال ثلاث سنوات، لإثبات وجود جسيمات خارجة عن المألوف يمكن تسميتها اكتشافًا علميًا»

إذا ثبتت النتائج، فسيكون ذلك مثالًا واضحًا على مرونة النموذج المعياري وإمكانية توسيعه، ليشمل العلوم المكتشفة حديثًا ويفتح الآفاق لمجالات جديدة في الفيزياء.

اقرأ أيضًا:

مصادم الهدرونات الكبير (مقالة مفصلة)

ما تزال الشذوذات في مصادم الهدرونات الكبير تشير بقوة إلى فيزياء جديدة

ترجمة: رؤوف طيلوني

تدقيق: تسبيح علي

مراجعة: أكرم محيي الدين

المصدر