مصادم الهدرونات الكبير هو مسرع ل الجسيمات طولهُ 27 كيلومترًا وهو نفق على شكل خاتم. صنعت هذه الحلقة بشكل أساسي من مغانط فائقة التوصيل. توجد على عمق 100 متر بالقرب من جنيف على الحدود بين فرنسا وسويسرا. تتم في هذا المصادم اختبارات تكشف لنا تاريخ الكون بعد الانفجار العظيم.

فيما يُستخدم؟

يستخدم المصادم في تسريع الجسيمات، إذ تنطلق حزمتان من الهدرونات -بروتونات أو أيونات الرصاص- بسرعات كبيرة جدًا تقترب من سرعة الضوء في اتجاهات متعاكسة داخل الحلقة وتتصادم.

لماذا يريد العلماء هذا التصادم؟

يأمل العلماء أن نستنتج من هذه التصادمات بعض الإجابات عن الألغاز الخاصة بالكون ونشأته، إذ يظن الفيزيائيون أن الكون بدأ منذ حوالي 13.7 بليون عام، عندما حدث الانفجار العظيم. في ذلك الوقت كان الكون شديد السخونة والكثافة. لكن في لحظة بدأ يبرد وبدأت العمليات المختلفة الّتي أدت إلى ما نراه يحدث اليوم.

التصادمات عالية الطاقة التي ينتجها مصادم الهدرونات الكبير سوف تعيد خلق الظروف المبكرة التي حكمت الكون بلحظات فقط بعد الانفجار العظيم. يأمل علماء الفيزياء أيضًا أن تخلق التصادمات جسيمات جديدةً لم تُرصد من قبل، حتى لو بشكل لحظي، فهذه هي الحلقات المفقودة في علم الفيزياء الحديثة.

إذًا ما هي هذه الألغاز الكونية؟

حسنًا، يوجد الكثير. سنبدأ ببعض الأشياء المألوفة. يعتقد الفيزيائيون أن المادة تتكون من 12 جسيمًا أساسيًا. هذه الجسيمات تتضمن الإلكترونات والجسيمات التي تكون العنصرين الآخرين للذرة، البروتونات والنيوترونات.

وهناك أربعة قوى أساسية تحكم التفاعل بين هذه الجسيمات: القوة النووية القوية وهي التي تعمل على تماسك الكواركات لتكوين البروتون، والقوى النووية الضعيفة وهي المسببة للتحلل الإشعاعي النشط، والقوى الكهرومغناطيسية التي تعمل بين الجسيمات المشحونة (الأيونات)، وأخيرًا قوى الجاذبية. وتعتبر القوى النووية الضعيفة مع القوى الكهرومغناطيسية جانبين مختلفين لقوة واحدة تعرف بالقوة الكهربائية الضعيفة.

هذه القوى ليست بمعناها الحرفي المعتاد، ولكنها عبارة عن تفاعلات، فعندما تؤثر هذه القوى يكون هناك جسيم يعرف بحامل القوة، والذي يحمل تأثير هذه القوة مثل البوزون. ولكل قوة جسيم حامل خاص بها، أما قوى الجاذبية يسمى الجسيم الخاص بها بالجرافيتون (Graviton) وهو ما لم يُرصَد إلى الآن، لا يزال وجوده افتراضيًا. تعرف النظرية التي تصف ما نعلمه عن الجسيمات الأساسية والقوى بالنموذج القياسي لفيزياء الجسيمات وإلى الآن تعد نظريةً ممتازةً، لكن لا يزال هناك بعض العثرات.

هناك العديد من جوانب الكون التي لا نعلم عن وجودها ولا نستطيع رصدها. إذ يظن العلماء أننا نرصد فقط 4% من الكون. الباقي لا يصدر أي إشعاع -ضوء- بالتالي ليس بمقدورنا رصده. ولكننا نعلم بوجوده من خلال تأثيراته، إذ تستجيب بعض الأجرام السماوية للجاذبية بشكل أكبر مما حُسب وفقًا للمادة التي نراها ونرصدها. كما أن تمدد الكون يتسارع بفعل قوة تنافرية غريبة.

فيما يستخدم مصادم الهدرونات الكبير مم يتكون مصادم الهدرونات الكبير تصادم الجسيمات في سيرن مختبر سيرن ألغاز الكون الانفجار العظيم

رسم تخطيطي لمصادم الهدرونات الكبير

يتوقع العلماء أن هذا يحدث بفعل مكونين غامضين وهما المادة المظلمة والطاقة المظلمة، إذ يُظَن أنهما يكونان 26% و70% من الكون على الترتيب. ولا تدخل هذه المكونات ضمن النموذج القياسي لفيزياء الجسيمات، ويطمح العلماء إلى التوصل للجسيمات التي تتكون منها تلك المادة المظلمة عبر هذه الاصطدامات عالية الطاقة التي يحدثها مصادم الهدرونات حتى نستطيع رصد ودراسة هذه المادة وخواصها.

لماذا نحن هنا ولم نتلاشى؟

وفقًا للنموذج القياسي، كل جسيم يكون له مضاد جسيم، له نفس الكتلة ولكنه ذو شحنة مضادة. وعندما يلتقيان معًا يفني كل منهما الآخر وتتحول الكتلة الخاصة بكل منهما إلى طاقة. استُدل على وجود هذه المضادات من خلال معادلات رياضية، ورُصدت بالأشعة الكونية وحُضرت معمليًا.

ولكن المشكلة هي أنه لا يمكن تحضير مضاد الجسيم إلا مع الجسيم نفسه ليفني كل منهما الآخر، فإذا حدث هذا خلال الانفجار العظيم كان من المفترض أن تتلاشى المادة وينتهي الأمر إلى طاقة منبعثة فقط.

أين ذهبت كل هذه المادة المضادة؟ هل يوجد خلل في النظرية؟ أم هل يوجد كون آخر قائم بذاته ومكون من المادة المضادة بشكل موازي؟ يحاول العلماء الإجابة عن كل هذه الأسئلة من خلال تجارب المصادم الهادروني ودراسة مضادات الجسيمات والفروقات الدقيقة التي ربما تفسر هذا اللغز الكوني.

الحصول على الوزن:

كانت نظرية النموذج القياسي تفترض أن الجسيمات الحاملة للقوى بلا كتلة، وهو ما استطاع العلماء دحضه بحساب كتلة بعض من هذه الجسيمات. ولحل هذه المعضلة توصل العلماء إلى نظرية تفترض بأن الجسيمات بعد الانفجار العظيم مباشرةً كانت بلا كتلة، إلى أن تفاعلت مع حقل خفي للقوة حصلت من خلاله على كتلتها عبر أحد البوزونات المعينة، الذي جاء مع هذا الحقل والذي يعرف الآن باسم (بوزون هيجز) نسبةً للعالم الفيزيائي الذي توصل لهذه النظرية وهو (بيتر هيجز-Peter Higgs).

لم يستطع العلماء حينها رصد بوزون هيجز ولكنهم كانوا يطمحون لأن يتتبعوا أية بقايا لهذا البوزون قبل أن ينحل بسرعة إلى شيء آخر عقب التصادمات الهادرونية التي تحدث في المصادم الكبير. فإذا رُصد وأُكد وجوده سنغلق ثغرةً كبيرةً في النموذج القياسي وأي دليل على عدم وجوده قد يهدم كل ما نفهمه عن الفيزياء الحديثة. وبالفعل رُصدت إشارات لبوزون هيجز عمليًا بالمصادم الهادروني في عام 2011 وهذا ما أعلنه مختبر (سيرن-CERN) في 4 يوليو من عام 2012.

الرابطة الكونية:

تتكون المادة من ذرات والتي تتكون بدورها من إلكترونات وبروتونات ونيوترونات، وتتكون البروتونات والنيوترونات من الكواركات والتي تتماسك مع بعضها عبر جسيمات تعرف بالجلونات.

وهذه الروابط قوية للغاية فلم يُوجَد من قبل أحد هذه الكواركات هائمًا بمفرده. ولكن بعد حدوث الانفجار العظيم مباشرةً كانت الحرارة عاليةً جدًا بشكل يمنع وجود هذه الروابط، ويظن العلماء أن الوضع كان عبارةً عن خليط ممتزج من الجسيمات الأولية يعرف باسم (بلازما الكوارك والجلونات -Quark-Gluon plasma ) وبعد أن بردت بدأت الروابط في التكون ونشأت الجسيمات التي نعرفها الآن.

ولكي نتأكد من صحة هذه الافتراض يقوم المصادم بخلق ظروف حرارية عالية الطاقة لإذابة هذه الروابط وتركها لتبرد ليحاكي آلية تكون الجسيمات في ظروف مشابهة للانفجار العظيم.

فيما يستخدم مصادم الهدرونات الكبير مم يتكون مصادم الهدرونات الكبير تصادم الجسيمات في سيرن مختبر سيرن ألغاز الكون الانفجار العظيم

صورة أثناء تشييد المصادم والمهندسون يتنقلون داخل النفق بالدراجة!

الاتحاد العظيم بين الكم والنسبية العامة:

من أكبر العوائق التي تواجه النموذج القياسي أن أشهر القوى الأساسية الأربعة -وهي الجاذبية- لا تناسب النموذج. العالم دون الذري تصفه ميكانيكا الكم، بينما تصف النسبية العامة لأينشتاين الجاذبية ولكن على مستويات أكبر من المستويات دون الذرية.

المشكلة أن ميكانيكا الكم تتعارض مع النسبية العامة، فحين تقوم بتطبيق رياضيات ميكانيكا الكم على النسبية العامة في خارج النطاق دون الذري ستحصل على نتائج غير منطقية. لذلك يجب أن توجد نظرية جديدة توحد بين النظريتين وتحل التصادم والتعارض بينهما.

وأكبر مرشح لهذه النظرية سيكون نظرية الوتر والتي لاقت رواجًا وتأييدًا من غالبية علماء الفيزياء والرياضيات. تفترض هذه النظرية أن المادة تتكون أوليًا من أوتار دقيقة تهتز بترددات مستمرة فضلًا عن كونها مجرد جسيمات دقيقة، ولكنه افتراض قائم على الرياضيات ولم يُثبت أو يُختبر معمليًا.

واحدة من أكثر التنبؤات المثيرة التي نستنتجها من رياضيات تلك النظرية هي أن الزمكان يتكون من 10 أبعاد، وليست أربعةً فقط. يظن العلماء أن الأبعاد الستة الباقية تلتف حول بعضها البعض بشدة، بدرجة تحول عن رصدنا أو استشعارنا لها، ويمكن اختبار هذه الفكرة عن طريق خلق بيئة عالية الطاقة تسمح للجسيمات أن تقفز لهذه الأبعاد الخفية بطريقة تمكننا من رصدها. لهذا ينظر العلماء بحرص شديد إلى نتائج تجارب المصادم الهادروني للتوصل إلى أية أدلة تساعد على إثبات النظرية.

هل هو آمن؟

هل سيخلق المصادم ثقوبًا سوداء أو دوديةً؟ هل سيلقي بنا إلى عالم موازي؟ بالطبع لا، فهو آمن تمامًا ولن تنتج عنه أية آثار مدمرة كالتي فعلتها الطبيعة بنا والتي تمكنا من النجاة منها على مر العصور. لن يتمكن المصادم من خلق ثقوب سوداء وحتى إن فعل ستكون ضئيلةً للغاية وستختفي لحظيًا دون أي ضرر. أما بالنسبة للناس الذين تواصل اتهامهم لمختبر سيرن بتعريض البشرية للخطر، سيكونون سعداء إذا أُلقِي بهم إلى أي عالم موازي على أي حال.

اقرأ أيضًا:

ترجمة: محمد شريف.

تدقيق: بوغوص حنا يوسيف.

المصدر