الفيروسات طفيليات مجهرية، أصغر بكثير من الجراثيم عمومًا. تفتقر الفيروسات القدرة على العيش والتكاثر خارج جسم المضيف. تشتهر الفيروسات بالدرجة الأولى بأنها سبب الأوبئة، وذلك يعود إلى الانتشار الواسع للأمراض والوفيات. أهم الأمثلة جائحة إيبولا في غرب أفريقيا عام 2004 ووباء إنفلونزا الخنازير أو H1N1.

تشكل بعض الفيروسات عدوًا للأطباء والعلماء، إلا أن بعضها كان أداة بحثية هامة ساعدتنا على فهم أساسيات العمليات الخلوية مثل تركيب البروتين وفهم الفيروسات بحد ذاتها.

الاكتشاف:

لأي حد تُعد معظم الفيروسات صغيرة مقارنةً بالجراثيم؟

صغيرة كثيرًا. فيروس الحصبة أصغر من الجرثومة القولونية بـ 8 مرات بقطره البالغ 220 نانومترًا، وفيروس التهاب الكبد أصغر من الجرثومة القولونية بـ 40 مرة بقطر يبلغ 45 نانومترًا.

لشرح كم هي صغيرة، قدّم البروفيسور في علم الأحياء من جامعة دافيدسون دافيد أر ويسنير تشبيهًا في مقالته التي نُشرت في مجلة ناتشور إيديوكاشن: «فيروس شلل الأطفال بقطره البالغ 30 نانومترًا أصغر بـ 10 آلاف مرة من حبة ملح». أعطى هذا الفرق في الحجم بين الفيروسات والجراثيم أول إشارة على نشأتها.

في نهاية القرن التاسع عشر، أُثبتت نظرية أن الكائنات المجهرية -الجراثيم خصوصًا- قد تسبب الأمراض للإنسان، لكن عجز الباحثون في مرض تبرقش التبغ عن تحديد المسبب لهذا المرض.

نشر الكيميائي والباحث الزراعي الألماني أدولف ماير في دراسة بعنوان «حول مرض تبرقش التبغ» عام 1886 نتائج تجاربه المكثفة. وجد ماير عند هرس الأوراق المصابة وحقن السائل المؤذي الخارج منها في أقنية الأوراق السليمة؛ ظهور بقع صفراء وخسارتها اللون وهذه العلامات المميزة للمرض.

تنبأ ماير بدقة أن العامل المسبب لمرض تبرقش التبغ موجود في سائل الأوراق ولكن لم يستطع ماير إيجاد أدلة ثابتة، فقد كان متأكدًا أن مهما يكن المسبب للمرض فهو من أصل جرثومي، لكنه فشل في عزل العامل المسبب وتحديده باستخدام المجهر، ولم يستطع أيضًا إحداث المرض عبر حقن الأوراق السليمة بعدة أنواع معروفة من الجراثيم.

في 1892، أعاد الطالب الروسي ديميتري إيفانوفسكي تجارب ماير لكن مع بعض التعديلات. وفقًا لمقالة نُشرت في مجلة باكتيريولوجيكال ريفيو عام 1972، مرّر إيفانوفسكي سائل الأوراق المصابة عبر مصفاة شامبيرلاند (مصفاة دقيقة الثقوب تمنع عبور الجراثيم والكائنات المجهرية الأخرى المعروفة)، بقي السائل مُعديًا رغم التصفية، الأمر الذي شكل لغزًا جديدًا، فمهما يكن المسبب للمرض فهو صغير بما يكفي لعبور ثقوب المصفاة. اعتقد إيفانوفسكي أن سبب مرض تبرقش التبغ جرثومي، وأن السائل المصفّى احتوى جراثيم أو سمًا منحلًا.

لم يُعترف بوجود الفيروسات حتى عام 1898. اقترح العالم الهولندي مارتينوس بيجيرينك، بعد تأكد نتائج إيفانوفسكي أن المسبب لمرض تبرقش التبغ ليس جرثوميًا بل فيروس سائل حي، أطلقت عليه التسمية القديمة: الفيروس القابل للتصفية.

أثبتت تجارب إيفانوفسكي وبيجيرينك ومَن بعدهم وجود الفيروسات فقط، استغرق الأمر عدة عقود حتى تمكن أي شخص من رؤيتها.

وفقًا لمقالة نُشرت في مجلة كلينيكال مايكروبيولوجي ريفيو عام 2009، بمجرد اختراع العالمين الألمانيين إرنست روسكا وماكس نول المجهر الالكتروني، أصبحت رؤية الفيروسات ممكنة عبر هذه التقنية الحديثة عالية الدقة. الصور الأولى المأخوذة من قبل العالمين كانت لفيروس تبرقش التبغ. وهكذا اكتمل اكتشاف الفيروسات.

ما هي الفيروسات ؟ وكيف اكتشفت؟ - طفيليات مجهرية أصغر من الجراثيم - كيف تتكاثر الفيروسات؟ - هل الفيروس كائن حي؟ - الحمض النووي الفيروسي

بنية الفيروسات:

تتواجد الفيروسات على حدود ما يُعرف بالحياة. من جهة احتوائها على أهم عنصر في صنع الكائن الحي وهو الحمض النووي DNA أو RNA، إذ تملك الفيروسات أحدهما فقط. ومن جهة أخرى لا تملك القدرة على ترجمة المعلومات المشفرة على الحمض النووي بمفردها.

تقول أستاذة العلوم الحيوية الجزيئية في جامعة تيكساس في أوستن جاكلين دادلي: «الفيروس كائن طفيلي يحتاج الخلية المضيفة للتضاعف، لا يستطيع الفيروس التكاثر بمفرده خارج جسم المضيف لأنه يفتقر للآليات المعقدة المطلوبة والتي تمتلكها الخلايا المضيفة».

تسمح الآليات الخلوية للفيروسات من إنتاج RNA من حمضها النووي DNA في عملية تعرف بالانتساخ، وبناء البروتينات حسب التعليمات الموجودة على RNA في عملية تعرف بالترجمة.

عندما يكون الفيروس مكتملًا وقادرًا على الإصابة يعرف بالفريون Virion. حسب كتاب علم الأحياء الدقيقة الطبي – النسخة الرابعة (الفرع الطبي من جامعة تكساس في جالفستون، 1996)، تتألف بنية الفريون البسيط من حمض نووي داخل محفظة بروتينية أو الكبسولة. تحمي الكبسولة الحمض النووي للفيروس من التحلل بإنزيمات خلايا المضيف الخاصة التي تعرف ب النيوكلياز Nucleases. تملك بعض الفيروسات طبقة حماية إضافية تدعى الغلاف؛ يُشتق الغلاف غالبًا من الغشاء الخلوي للخلية الهدف القليل من الأجزاء الصغيرة المسروقة والمُعدّلة لخدمة الفيروس.

يمكن أن يكون الحمض النووي DNA أو RNA في مركز الفيروس مفردًا أو مضاعف السلسلة. إذ يحتوي الجينوم الفيروسي أو المعلومات الجينية الكاملة للفيروس. الجينوم الفيروسي صغير غالبًا، يقتصر على المعلومات لصنع البروتينات الأساسية كبروتينات الكبسولة والإنزيمات والبروتينات اللازمة للتضاعف داخل الخلية المضيفة.

وظيفة الفيروسات:

الدور الأساسي للفيروس أو الفيرون هو إيصال الحمض النووي إلى داخل الخلية المضيفة ليُصبح بالإمكان التعبير عنه (انتساخه وترجمته) من قبل الخلية المضيفة، بحسب علم الأحياء الطبي.

في البداية يحتاج الفيروس الدخول إلى جسد المضيف، ويشكل الطريق التنفسي والجروح المفتوحة بوابات لدخول الفيروسات. يمكن للحشرات أن تساعد في ذلك، تستغل بعض الفيروسات لعاب الحشرات لدخول الجسم عندما تلدغه الحشرات.

حسب كتاب علم الأحياء الجزيئي – النسخة الرابعة (جارلاند ساينس، 2002) هذه الفيروسات تستطيع التضاعف في خلايا الحشرات والمضيف لتأمين انتقال سلس فيما بينهما. من الأمثلة عليها الفيروسات المسببة للحمى الصفراء وحمى الضنك.

تلتصق الفيروسات بسطح الخلية المضيفة عبر التعرف والارتباط بمستقبلات على سطح الخلية، كقطعتين متوافقتين من أحجية. يمكن العديد من الفيروسات الارتباط بنفس المستقبل ويمكن الفيروس الواحد الارتباط بمستقبلات خلوية مختلفة، في حين يستغل الفيروس المُستقبل لصالحه، إلا أنه صُمّم لخدمة الخلية.

بعد ارتباط الفيروس بسطح الخلية المضيفة يبدأ التحرك عبر غشاء الخلية المستهدفة، ويوجد العديد من أشكال الدخول. يملك فيروس HIV غلافًا يندمج مع الغشاء ويدفع نفسه إلى الداخل، يُبتلع فيروس الإنفلونزا المغلف أيضًا من الخلية. بعض الفيروسات غير المغلفة مثل فيروس شلل الأطفال يشكّل قناة دخول تخترق الغشاء.

في الداخل، تحرر الفيروسات مادتها الجينية وتعطل أو تستغل أجزاء مختلفة من الآليات الخلوية. يوجه الجينوم الفيروسي الخلية المضيفة لصنع أجزاء الفيروس (في كثير من الأحيان يعطّل تركيب أي بروتينات أو RNA قد تستخدمه الخلية)، في النهاية تنقلب المعادلة لصالح الفيروس داخل الخلية وجسد المضيف أيضًا بتهيئة الظروف المناسبة لانتشاره.

على سبيل المثال، عندما نصاب بنزلة البرد نطلق عند العطاس 20 ألف قطرةً تحوي جزيئات فيروس الرينو أو الفيروس التاجي، يؤدي لمس أو استنشاق هذه القطرات إلى انتشار نزلة البرد.

الاكتشافات الحديثة:

تبدأ فهم علاقة الفيروسات فيما بينها بملاحظة الاختلافات في أحجامها وأشكالها وإذا احتوت DNA أم RNA وبأي هيئة تواجدت. بوجود طرق أفضل لرسم خارطة الجينومات الفيروسية ومقارنتها ببعضها، ومع استمرار تدفق البيانات العلمية الجديدة ستزداد معرفتنا للفيروسات وتاريخها.

دامت فكرة أن الفيروسات مخلوقات أصغر بكثير من الجراثيم بحمض نووي ضئيل قائمةً حتى عام 1992، عندما اكتشف العلماء بِنًى شبيهة بالجراثيم داخل بعض المتحولات في أبراج التبريد، وفقًا لـ ويسنر.

كان ما اكتشفوه فيروسات كبيرة جدًا سُميت الميميفيروس أو الفيروسات المحاكية. يبلغ قطر الفيروس 750 نانومترًا ويملك نفس خاصيات تلوين جراثيم إيجابية الغرام. تبع ذلك اكتشاف أنواع فيروسات كبيرة مثل المامافيروس والميغافيروس.

تقول دادلي في إشارة إلى أنهم (فيلة) عالم الفيروسات:« ليس من المعروف كيف تطورت هذه الفيروسات، قد تكون خلايا ناكسة أصبحت تتطفل على خلايا أخرى (الميميفيروس داخل المتحول)، أو أنها فيروسات تقليدية استمرت في اكتساب جينات جديدة».

تتطلب الميميفيروس الآليات الخلوية للتضاعف مثل الفيروسات الأصغر حجمًا، لكن يحوي جينومها بقايا مورثات مرتبطة بعملية الترجمة. كتب ويسنر: «هنالك إمكانية أن الميميفيروس كانت خلايا مستقلة. أو أنها ببساطة اكتسبت وراكمت بعضًا من مورثات المضيف».

تطرح هذه الاكتشافات أسئلة جديدة وتفتح طرقًا جديدة للبحث. ستقدم الدراسات المستقبلية أجوبة على أسئلة رئيسية عن نشأة الفيروسات وكيف وصلت إلى حالة التطفل وعن إمكانية شملها ضمن شجرة الحياة.

اقرأ أيضًا:

ليست كل الفيروسات سيئة، بعضها يعمل لإنماء صحتنا!

استغلال الحياة البرية يسبب انتشار المزيد من الفيروسات

ترجمة: حيان شامية

تدقيق: لبنى حمزة

المصدر