قد تؤذي بعض الممارسات التربوية المتشددة قدرة الأبناء على الحفاظ على علاقاتهم. تُعرف التربية المتشددة Overparenting بأنها محاولة التحكم في الأبناء أو الإفراط في حمايتهم بما لا يتناسب مع حاجاتهم العمرية خاصةً إن كانوا في سن المراهقة، وقد تعني أيضًا الانخراط الزائد في حياة المراهقين والمبالغة في إظهار الحب لهم. ويسمى الآباء الذين يتصرفون هذه التصرفات بالآباء المفرطين بالأبوة، أو الآباء المدللين Helicopter parents.

وفق بحث أجراه كريس سيجرن وفريقه عام 2012، فإن الذين تربوا بهذا النوع من التربية يصعب عليهم الاعتماد على أنفسهم والتعامل مع تحديات الحياة العادية. وتؤدي صعوبة الاعتماد على النفس بهم إلى معاناة الاضطرابات المزاجية والنرجسية والاضطراب العاطفي إضافةً إلى الصراع للشعور بالاستحقاق.

والسؤال هنا: هل تعد التربية المتشددة سببًا في تكوين أنماط التعلق غير الآمنة لدى الشباب؟

ما هي أنماط التعلق؟

تعيّن نظرية التعلق التي طورها جون بولبي وماري إينسوورث القلق والتجنب بمثابة محورين للتعلق.

يعكس محور القلق درجة ميلنا للاعتقاد بأن الأشخاص المهمين في حياتنا -كأفراد عائلتنا وأصدقائنا وشريكنا العاطفي- يهتمون بنا وعلى استعداد لأن يلبوا حاجاتنا ويدعمونا. ويعكس محور التجنب درجة اعتمادنا على الآخرين لنشعر أفضل حيال أنفسنا.

لمحوري القلق والتجنب دور رئيسي في تحديد قدرتنا على تكوين علاقات صحية والحفاظ عليها:

  •  يُشخص الفرد شديد التجنب وقليل القلق بنمط التعلق التجنبي الرافض Dismissive-avoidant؛ ويميل إلى الاعتماد على نفسه بشكل قهري ويرفض -على المستوى النفسي- فكرة أن العلاقات قد تنفعه.
  •  يُشخص الشخص شديد التجنب والقلق معًا بنمط التعلق التجنبي الخائف Fearfully-avoidant؛ إذ يتجنب تكوين العلاقات لخوفه من الهجران والتنمر العاطفي أو الجسدي.
  •  يُشخص الشخص شديد الاعتماد العاطفي على شريكه لدرجة ارتياعه من فكرة هجره بنمط التعلق القلقي المتسلط Preoccupied-anxious.

العلاقة بين التربية المتشددة وأنماط التعلق

في دراسة حديثة، بحث العالمان كريس سيجرن ويان ياو ارتباط التربية المتشددة بأنماط التعلق غير الآمنة لدى الشباب، ومدى تأثيرها في قرارهم بشأن تأجيل الزواج.

شارك في الدراسة 231 شابًا تراوحت أعمارهم بين 18 و29 عامًا، وكان معدل أعمارهم 24 عامًا.

أجاب المشاركون عن استبيان حول المواضيع التالية:

  •  التربية المتشددة: «يبالغ أبواي بردة فعلهما عندما أواجه مشكلة».
  •  طبيعة العلاقة بالأبوين: «أخشى أن أبوي لا يهتمان لأمري كما أهتم لأمرهما».
  •  القلق في العلاقات العاطفية: «أشعر أحيانًا بأن الآخرين ينفرون مني عندما أحاول التقرب منهم».
  •  التجنب في العلاقات العاطفية: «أتوتر عندما يحاول شريكي التقرب مني».

أظهرت النتائج ترابطًا واضحًا بين التربية المتشددة وظهور أنماط التعلق غير الآمنة في علاقة الشاب بكل من أبويه وشريكه العاطفي.

أظهرت النتائج أيضًا أن الشاب الذي تعرض للتربية المتشددة يفضل العزوبة على الزواج ويميل إلى تأجيله.

والسؤال المطروح هو: أي النمطين يظهر في الشاب الذي تلقى تربيةً متشددة؟ أهو التجنب أم القلق؟

يشير الباحثون إلى امتلاك الشاب الذي تلقى تربيةً متشددة تقديرًا ذاتيًا منخفضًا؛ يرتبط التقدير المتدني للذات بازدياد القلق، وينشئ ذلك فيه نظرةً ذاتيةً تقول «أنا لست كافيًا»؛ تُعمم هذه النظرة على مختلف جوانب الحياة لتشمل العلاقات. ومن هنا نستنتج أن الشاب الذي تعرض للتربية المتشددة يعاني القلق الشديد في التعلق، وعلى ذلك، نستبعد نمط التعلق التجنبي الرافض لكونه يُشخص بانخفاض القلق.

اقترحت دراسة أخرى أجراها كركباترك وهازان عام 1994 أن الشاب شديد التجنب في التعلق يفضل العزوبة، ويقودنا هذا إلى افتراض أن التربية المتشددة تقود إلى نمط التعلق التجنبي الخائف.

أكدت الدراسات الفرضيةَ أعلاه، إذ عبر الشبان الذين تعرضوا للتربية المتشددة عن خوفهم من أن آباءهم لا يهتمون بهم بالقدر الكافي، ما يقودهم إلى الرغبة المستمرة في الحصول على الطمأنة من آبائهم، رغم ذلك، يخبئون مشاعرهم عن آبائهم لأنهم لا يشعرون بالارتياح للتعبير عنها.

وعلى نحو مماثل، عبر الشبان الذين تعرضوا للتربية المتشددة عن خوفهم من أن يتركهم شريكهم العاطفي، ما يشعرهم بالحاجة إلى الطمأنة المستمرة من شريكهم. رغم ذلك، لا يكشفون عن هذه المشاعر لشريكهم بل إنهم يضطربون عندما يحاول شريكهم التقرب منهم.

تتماشى هذه النتائج مع أساليب التربية المتشددة. وتقترح نظرية التعلق الكلاسيكية The attachment theory، أن القلق في التعلق ينشأ عندما يعتاد الأبوان تقديم استجابات غامضة متناقضة، بينما ينشأ التجنب في التعلق عندما يعجز الأبوان عن تقديم الرعاية الكافية.

نتيجةً لكل ما سبق، نجد المفارقة في كون التربية المتشددة تقصيرًا تربويًا وفشلًا من الآباء في فهم حاجات أبنائهم المراهقين إلى اعتمادهم على أنفسهم واستقلالهم في قراراتهم ودعم هذه الحاجات، ما يشوه أنماط التعلق لديهم بزيادة القلق والتجنب.

اقرأ أيضًا:

أنماط الارتباطات.. وما الذي تعنيه؟

الشعور بخيبة الأمل في العلاقات الوثيقة: إليك ما يجب فعله

ترجمة: عون حدّاد

تدقيق: آية فحماوي

المصدر