مرّ عامان على أول صورة التُقطت للثقب الأسود فائق الكتلة الكامن في مركز مجرة M87. الآن، التقط التلسكوب نفسه صورًا جديدةً بشكلٍ لم يسبق له مثيل لنفاثاتٍ بلازمية تخرج من الثقب الأسود فائق الكتلة الواقع قرب مركز مجرة القنطور أ.

صورة جديدة للنفاثات البلازمية.

صورة جديدة للنفاثات البلازمية.

يعد هذا حدثًا ضخمًا لسببين مهمَيّن:

أولًا: إن الصورة ليست فاتنة للنظر إليها فحسب، بل مثيرة للعقل حقًا. تقع مجرة القنطور أ الراديوية غريبة الشكل، على بعد 12 مليون سنة ضوئية، وبذلك تعد أقرب مصدرٍ راديوي للأرض، والمعروفة بثقبها الأسود الذي تتدفق منه نفاثات البلازما القوية، التي يمكننا تحديدها من الأرض.

أظهرت لنا الصور الجديدة -الملتقطة بوضوح لم يسبق أن رأيناه من قبل- تفاصيل ما يحدث في تلك النفاثات البلازمية المتدفقة.

وفقًا لما شرحه المؤلف الأول للبحث، مايكل جانسين، من معهد ماكس بلانك لعلم الفلك الراديوي في ألمانيا، في فيديو سؤال وجواب أصدره بجانب ورقة البحث العلمي: «تُعد مجرة القنطور أ الراديوية، أقرب مصدر راديوي للأرض، وقد اكتُشفت بصفتها أول مصدر راديوي يقع خارج المجرة. وبفضل ما توصلنا إليه، يمكننا تحليل النفاثات البلازمية ورؤيتها في أثناء تدفقها السريع عبر المجرة، ومعرفة تأثيراتها في غاز المجرة ودورها في تكون النجوم، إنه حقًا مشروع بحثي واسع للغاية».

ثانيًا: تطابق صورنا عالية الدقة مع ما توقعناه مسبقًا بناءً على النسبية العامة، يعني أن تلسكوب أفق الحدث يؤكد للمرة الثانية، أن آينشتاين على حق مجددًا.

فقد أُكدت النسبية العامة من قبل التلسكوب ذاته الذي أصدر أول صورة للثقب الأسود لمجرة M87 الملتقطة عام 2019، ولكن إلى الآن، علينا أن نرى إذا كان الأمر نفسه ينطبق على الثقوب السوداء الأقل حجمًا، إذ يكون امتصاصها للمادة أقل.

تبلغ كتلة الثقب الأسود الواقع في مركز مجرة القنطور أ، نحو 55 مليون كتلة شمسية، أي أقل من كتلة الثقب الأسود فائق الكتلة الخاص بمجرة M87 بنحو 100 مرة.

ولكن، مع ذلك فإنه يظل أكبر بكثير من الثقب الأسود الواقع في منطقة الرامي أ حيث مركز مجرتنا، بكتلته البالغة 4.1 مليون كتلة شمسية، الذي يُعد الهدف الأساسي الثاني لتلسكوب أفق الحدث.

لذلك يعتبر الثقب الأسود الكامن في مجرة القنطور أ، نقطةً وسطيةً تمكننا من إخضاعه واختبار النسبية العامة لآينشتاين عليه.

في الصور الأخيرة تمكن تلسكوب أفق الحدث من التقاط صورة لظل الثقب الأسود بنفسه -وهو ما فعله التلسكوب ذاته لصورة الثقب الأسود الشهيرة عام 2019- ولكن يمكنهم التحديق أسفل الثقب الأسود بحوالي 0.6 سنة ضوئية حيث يمكن رؤية أصل نفاثات البلازما المتدفقة تقريبًا.

تظهر النفاثات كأنها مخروط ثلاثي الأبعاد بحواف مضيئة، وعمومًا تُعد خصائصها وأبعادها متشابهةً مع نفاثات M87، وأيضًا مشابهة للنفاثات البلازمية المرصودة من الثقوب السوداء الأصغر حجمًا والأقل كتلةً.

وفقًا لما شُرح في بيان صحفي: « دعمت النتائج فكرة أن الثقوب السوداء فائقة الكتلة تعتبر نسخًا موسعةً من نظيرتها الأقل كتلةً».

يمكنك الآن النظر إلى الصورة الواقعة في المنتصف، التي تعد الصورة الأحدث للنفاثات البلازمية المتدفقة من مجرة القنطور أ، مقارنةً بالصورة الأدق الملتقطة للثقب ذاته، الواقعة جهة الشمال، ومقارنتها مع النفاثات المنطلقة من الثقب الأسود M87 على اليمين.

الصورة a: تمثل الإصدار الأدق للنفاثات البلازمية المتدفقة من الثقب الأسود، والمأخوذة بمجموعة قياس VLBI ( قياس التداخل ذو المدى الفائق)TANAMI(تتبع مسارات نوى المجرات النشطة باستخدام مقياس التداخل الاسترالي بوحدة ملي ثانية قوسية).

الصورة b: تمثل الإصدار الأحدث لذات الثقب الأسود، والتي تم تكبيرها 16 مرة بالمقارنة مع الصورة a.

الصورة c : فإنها صورة للتدفقات البلازمية الخاصة بالثقب الأسود M87.

أظهرت الصور أيضًا إلى أين يمكن للنفاثات البلازمية أن تتدفق، ويعد هذا أمرًا بالغ الأهمية كما أوضح جانسين، لأن من المحتمل أن تحوي الحواف الخارجية للتدفقات تسارعًا للجسيمات، وهذا قد يشير بدوره إلى المصدر المحتمل للأشعة الكونية فائقة الطاقة. وقد رأينا حقًا أين تنتهي تلك التدفقات.

حسنًا، ما تلك التدفقات البلازمية ؟

إنها تحدث عندما تسقط مادة المجرة داخل ثقبها الأسود، ونتيجةً لذلك تنفجر الطاقة إلى الخارج مسرعةً، وغالبًا ما تقارب سرعتها سرعة الضوء.

لقد اكتشفنا الكثير من تلك المصادر الراديوية القوية في المجرات، ولكن إلى الآن لم نفهم تحديدًا آليات عملها.

تعد كل تلك التفاصيل مهمةً جدًا، إذ تزود علماء الفلك بالمعلومات التي يحتاجونها، لإنشاء نموذج محاكاة للنسبية العامة في المختبر.

تقول الباحثة سيرا ماركوف، من جامعة أمستردام، والمشاركة في مشروع تلسكوب أفق الحدث: «نحن الآن إلى حدٍ ما قادرون على توليد ثقبٍ أسود فعال داخل صندوق».

ولكن بالطبع، لدى نموذج المحاكاة حدود لما يمكنه فعله، لأننا لم نفهم بشكلٍ كافٍ بعد الأشكال التي يمكن لتلك النفاثات البلازمية أن تتخذها.

في وقتٍ تُطلعنا الصور على رؤية جديدة للثقوب السوداء، ما يزال لدينا الكثير لنتعلمه عن تلك الوحوش الكونية، على سبيل المثال ما يحدث تحديدًا في الحافة الفاصلة بين النفاثات البلازمية والثقب الأسود نفسه.

وفقًا لحساباتٍ تنبأ بها الفريق، فإن ذلك الأمر يمكن تصويره بمجرة القنطور أ، بواسطة تلسكوب أفق الحدث، ولكن باستخدام ترددات بمقياس التيراهيرتز، فقد الُقطت تلك الصور بمقياس 228 ميجا هيرتز. وبدلًا من ذلك، يمكنهم استخدام التلسكوبات الفضائية بدلًا من التلسكوبات الأرضية، لإلقاء نظرة أقرب.

إلى الآن هنالك وفرة من بيانات يمكن لعلماء الفلك أن ينهموها، ونأمل أن تساعدنا تلك الرؤية الجديدة، على فهم الثقوب السوداء التي تعد من أكثر الأجسام غموضًا في الكون بشكلٍ أفضل.

اقرأ أيضًا:

كيف تساهم نفاثات الثقوب السوداء في تكوين النجوم ؟

نموذج محاكاة مبتكر يزودنا بنظرة مقربة إلى الثقب الأسود في مركز مجرتنا

ترجمة: آية قاسم

تدقيق: باسل حميدي

المصدر