بماذا تخبرنا الرسوم في الكهوف عن الحياة ما قبل التاريخ؟

تعكس اللوحات المرسومة أو المنحوتة على الصخور وجدران الكهوف المكتشفة في جميع أنحاء العالم واحدةً من أولى أشكال التواصل لدى البشر، وربما تلمح إلى بدايات التطور اللغوي. إذ تمدنا رسوم الكهوف بمعلومات عن البشر الذين أوجدوه في عصور ما قبل التاريخ، فاللوحات المرسومة، أو المطلية أو المنقوشة على الصخور وجدران الكهوف التي غالبًا ما كانت مجردةً ورمزيةً، صوّرت فيما بعد البشر، والحيوانات والشخصيات الهجينية التي حملت في طياتها نوعًا من الدلالة الروحية.

رغم أن أقدم فنٍ معروفٍ من عصور ما قبل التاريخ لم يكن مرسومًا على جدران كهف، بل إن أقدم لوحة معروفة وُجِدت في جنوب إفريقيا منقوشة على ظهر صخرةٍ يعود تاريخها حتى 73000 عام، وذلك سابقٌ لأي فنٍ معروف من فنون الكهوف، فإن الكهوف تساعد على حماية الفن والحفاظ عليه على جدرانها ما يجعل منها سجلاتٍ تاريخية غنية لعلماء الآثار لدراستها. ولأن البشر أضافوا إلى رسوم الكهوف وطوروها بمرور الوقت ترانا نجد الكثير من الطبقات التي تصور تطور التعبير الفني لديهم. ففي عام 2018، عثر الباحثون على أقدم رسوم الكهوف المعروفة في إسبانيا، التي رسمها إنسان نياندرتال قبل 64 ألف سنة على الأقل، ولا سيما في كهوف «لا باسيغا» و«مالترافييسو» و«أرداليس»، التي كانت الرسوم فيها مجردةً (تشكيلية) حالها حال بقية فنون الكهوف المبكرة.

بالإضافة إلى أن الباحثين اكتشفوا في تلك الكهوف رسومًا يظهر فيها شخص يتسلق خطوطًا ثابتة تشبه السلم، ورسومَ كهوفٍ أخرى تحوي طبعات يد وبنًى من الصواعد المزينة بالمُغْرَة (وهي صبغة طبيعية أرضية مكونة من مجموعة من أكاسيد الحديد).

يقول أليستير دبليو جي بايك، رئيس العلوم الأثرية في جامعة ساوثهامبتون في المملكة المتحدة وهو أيضًا باحث مساعد في دراسة حول الكهوف نُشرت في مجلة ساينس عام 2018: «من المحتمل أن إنسان نياندرتال الذي تزاوج مع الإنسان العاقل، ترك هذا الفن في المواقع التي عدوها حمیمة». وتشير طبعات اليد التي عُثر عليها في الأخاديد الدقيقة للكهف في أماكن يصعب الوصول إليها- إلى أنّ الشخص الذي صنعها كان يجب عليه تجهيز الصبغة والضوء قبل المجازفة بالتوغل إلى عمق الكهف للعثور على الموقع المطلوب. والإشارات الموجودة في رسوم الكهوف كذلك مثيرة للاهتمام بحد ذاتها بسبب وضوح التفكير الرمزي فيها.

يقول بايك: «تكمن أهمية اللوحة في عدم معرفة قدرة إنسان نياندرتال على الرسم ، وذلك يشير إلى حقيقةٍ مفادها أنهم كانوا منغمسين في الرمزية». «وربما يكون هذا مرتبطًا بالقدرة على امتلاك لغة». ومن جهة أخرى، افترض أستاذ اللغويات والثقافة اليابانية في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا MIT شيغيرو مياغاوا الباحث المشارك في دراسة في مجلة فرونتيرز إن سايكولوجي- وجود ترابط ممكن بين فن الكهوف والتطور اللغوي أيضًا. ومن وجهة نظره، إنّ السبب الذي دفعه إلى تفحّص فن الكهوف هو مشكلة أنّ «اللغة غير قابلة للتحجر».

إذ كانت غايته هي العثور على الآثار التي يمكن عدها مؤشراتٍ إلى اللغة البدائية. لذلك «أثارت اهتمامه صوتيات الأماكن التي تقع فيها تلك الكهوف، واحتمالية وجود علاقة بين مواضع تلك الكهوف والأصوات التي يسمعها الأشخاص أو يصدرونها في بقعة معينة».

مع مرور الوقت، بدأ فن الكهوف بإبراز الشخصيات البشرية والحيوانية. قبل 43,900 سنة على الأقل، عُثِر على أول رسوم الكهوف في جزيرة سولاويسي الإندونيسية، التي تظهر فيها مشاهد الصيد. وأيضًا قبل 45,500 سنة على الأقل، وفي كهف لينج تيدونجنج في جزيرة سولاويسي، إندونيسيا، اكتُشفت أقدم رسوم الكهوف التي تعرض خنزير سولاويسي البالغ.

لذلك تسبق رسوم الكهوف في إندونيسيا (رسوم كهف سولاويسي) نظيرتها في فرنسا (رسوم كهف لاسكو) بعشرات آلاف السنين. ويرجع سبب ذلك إلى إظهارها قدرة الفنانين على تصوير المخلوقات التي توجد حول العالم، وتبرز رسومات كهف لاسكو -التي اكتُشفت في أثناء تتبع مجموعة من المراهقين كلبًا إلى الكهف في عام 1940- مئات صور الحيوانات التي يرجع تاريخها إلى 17,000 سنة مضت.

وبينما يصوّر الكثير من رسوم ذلك الكهف حيواناتٍ سهلة التمييز مثل الأحصنة والثيران والغزلان، تصور قليل منها حيواناتٍ غير مألوفة مشيرة إلى قدرة الفنانين على رسم أشياء لم يروها على الأرجح في الحياة الواقعية. ويضم كهف لاسكو أشهر اللوحات التي تظهر فيها الحيوانات، والناس ومشاهد الصيد مثل صورة ذكر وحيد القرن المبهَم وصورة أنثى وحيد القرن الحبلى، بالإضافة إلى صورة الصياد المهزوم والثور (صورة الساحر). ما يدلنا على أنّ الفنان قد أولى اهتمامًا خاصًا لجعل الشخصية البشرية ذكورية تشريحيًا.

وفي أميركا الشمالية، يمكن العثور على فن الكهوف في جميع أنحاء القارة ولكن مع تركيز كبير في الصحراء الجنوبية الغربية حيث لعب المناخ الجاف دورًا مهمًا في الحفاظ على آلاف الصخور ورسومات شعوب بويبلان القديمة. اكتُشفت بعض أقدم رسوم الكهوف المعروفة حاليًا في القارة -التي رُسِمت منذ حوالي 7000 عام- في جميع أنحاء هضبة كمبرلاند، التي تمتد عبر أجزاء من كنتاكي وتينيسي وآلاباما وجورجيا.

إذ استمر السكان الأصليون في صنع فن الكهوف في تلك النقطة حتى القرن التاسع عشر. وقال جان إف سيميك أستاذ علم الآثار في جامعة تينيسي، الذي درس وكتب عن فن الكهوف: «تتميز كهوف هضبة كومبرلاند بشخصية روحية تتحول من رجل إلى طائر». يبدو واضحًا أنّ الفنان البدائي أراد إخبارنا قصةً أو روايةً ما، ولا سيما الطريقة التي جُمِعت فيها تلك الرسومات. ويتابع قائلًا: «في وسط تينيسي، يوجد كهف مبكر نسبيًا، يحتوي على صور كثيرة يظهر فيها اقترانٌ بين مخلوق بشري يشبه الصندوق وآخر ذي مظهرٍ أكثر طبيعية، يتفاعلان مع بعضهما البعض كأنهما نسيج منسجم». ويضيف قائلًا «على الرغم من جهلنا بتلك القصة، تظل موجودة، وحتى لو لم يستطع علماء الآثار إخبارنا بالقصة التي كان يقولها الفنان البدائي، فإنه استخدم الصور متعمدًا لكي يخلق رواية لنفسه أو للآخرين».

اقرأ أيضًا:

ما سر ولع رسامي العصر الحجري بالخيول، حتى قبل ترويضها بآلاف السنين؟

من قام برسم رسوم الكهوف في العصر الحجري؟

ترجمة: جوليت كامله

تدقيق: أسعد الأسعد

مراجعة: عون حدّاد

المصدر