في 30 من أكتوبر عام 1961، طارت قاذفة سوفياتية من طراز توبوليف (مجهزة خصيصًا) نحو أرخبيل نوفايا زيمليا في المحيط المتجمد الشمالي؛ الأرخبيل ذاته الذي استخدمه الاتحاد السوفيتي كثيرًا موقعًا للاختبارات النووية. كانت هذه القاذفة مصحوبة بطائرة أصغر منها حجمًا، ومزودة بكاميرا سينمائية وأجهزة لرصد عينات الهواء. ولكن هذه المرة لم تكن مجرد تجربة نووية روتينية، ففي الجانب السفلي من الطائرة جرى توصيل قنبلة نووية حرارية كبيرة جدًا، بحيث لا يمكن وضعها داخل حجرة القنبلة الداخلية العادية.

كان طول الجهاز الأسطواني 8 أمتار، ووزنه نحو 27 طنًا متريًا، وكان يحمل الاسم الرسمي المبتذل (إيزدلي 602)، أي العنصر 602، ولكن التاريخ أزاح هذا الاسم مع تنصيب الروسيين لقب «القيصر بومبا»، أي إمبراطور للقنابل.

اللقب الجديد لم يكن من قبيل المبالغة، لأن قوة قنبلة قيصر تُقدَّر بنحو 57 ميغا طن، أي نحو 3800 ضعف قوة القنبلة الذرية البالغة 15 كيلوطن، التي دمرت هيروشيما في عام 1945.

وفي يوم تجربتها في العام 1961، أطلِقت برفقة مظلة هبوط لإبطائها وإعطاء المفجّر وطاقمه فرصة للهروب.

عندما انفجرت القنبلة العملاقة أخيرًا على بعد نحو 4 كيلومترات فوق هدفها، كان الانفجار قويًا لدرجة أنه دمر كل شيء في نطاقٍ قطره 35 كيلومترًا، وولد سحابة عيش الغراب، التي يبلغ ارتفاعها نحو 60 كيلومترًا.

وفي المدن السوفيتية على بعد 160 كيلومترًا من نقطة الانفجار، تدمّرت المنازل الخشبية بالكامل، وتضررت المباني المبنية أيضًا من الطوب والحجر.

بعد أن طواها النسيان لفترة، عادت قنبلة قيصر إلى الأخبار في أغسطس 2020، عندما نشرت شركة الطاقة النووية الروسية (روساتوم) على موقع يوتيوب، فيلمًا قديمًا أظهر مشهدًا جويًا للانفجار والسحابة الشاهقة التي أحدثها:

وصف أحد المصورين -الذين سجلوا انفجار هذه القنبلة- على أنه خلق وميضًا أبيض قويًا في الأفق، وبعدها بفترة طويلة، سُمِعَت ضربة عن بعد، وكانت غير واضحة وثقيلة وكأن الأرض قد قُتلت!.

كان الانفجار قويًا، لدرجة أن موجة الصدمة تسببت في هبوط القاذفة (توبوليف 95) مباشرةً إلى ارتفاع كيلومتر واحد، ولكن الطيار استعاد السيطرة عليها، وأعاد الطائرة إلى قاعدتها بأمان.

لماذا أراد السوفييت مثل هذه القنبلة العملاقة؟

كان اختبار قنبلة القيصر رمزًا للتوترات المتصاعدة بين السوفييت والولايات المتحدة. فبعد قمة يونيو 1961 في فيينا بين الزعيم السوفيتي نيكيتا خروتشوف، والرئيس الأمريكي جون كينيدي، كان من الواضح أن خروتشوف قرر التخلص من إحباطاته عبر التباهي بالبراعة العسكرية السوفيتية، متضمنةً إنهاء الوقف غير الرسمي للتجارب النووية، الذي حافظ عليه كلا البلدين منذ أواخر الخمسينيات.

منح استئناف الاختبارات الباحثين السوفييت العاملين في مجال الأسلحة، فرصة لتجربة فكرتهم في بناء قنبلة هيدروجينية عملاقة، أكبر بكثير من أقوى سلاح في ترسانة الولايات المتحدة.

في المنطق المخيف للحرب النووية الشاملة، يُعد امتلاك قنبلة هيدروجينية عالية القوة أمرًا منطقيًا من الناحية النظرية. ففي ذلك الوقت، كانت الصواريخ القادرة على ضرب بلدان بعيدة لا تزال في مهدها، ولم يكن لدى الاتحاد السوفيتي العديد من القاذفات الاستراتيجية، وفقًا للزميل البارز المقيم في فيينا من مركز جيمس مارتن لدراسات منع الانتشار، في معهد ميدلبري للدراسات الدولية في مونتيري بكاليفورنيا (نيكولاي سوكوف).

في المقابل، كان لدى الولايات المتحدة مجموعة متنوعة من الطائرات التي يمكن أن تضرب من قواعد قريبة بنحو ملائم من الأراضي السوفيتية.

ويضيف (سوكوف) عبر البريد الإلكتروني: «بالتالي، إذا كان بإمكانك فقط إلقاء قنبلة واحدة أو قنبلتين أو ثلاث، فمن الأفضل أن تكون قوية جدًا».

لكن الباحثين السوفييت دفعوا بهذه الفكرة إلى أقصى الحدود:

ففي البداية، تصوروا سلاحًا بقوة 100 ميغا طن مع مستوى عالٍ من الإشعاع، ولكنهم استقروا في النهاية على سلاح يزيد قليلًا عن نصف تلك القوة التفجيرية. بعد أن أعربت القيادة السياسية للاتحاد السوفيتي عن مخاوفها بشأن التلوث الناجم عن مثل هذا الانفجار.

وقال سوكوف: «نتيجة لذلك، كانت التداعيات محدودة جدًا، وبنحو أكبر من المتوقع. وكانت موجة الصدمة قوية حقًا؛ فقد طافت حول الأرض ثلاث مرات».

لكن مع ذلك، وجدت السلطات اليابانية أن مستوى الإشعاع في مياه الأمطار بلغ أعلى مستوى جرى اكتشافه على الإطلاق، وأن سحابة غير مرئية من الرماد المشع، انجرفت شرقًا عبر المحيط الهادئ، ثم عبرت كندا ومنطقة البحيرات العظمى في الولايات المتحدة.

طمأن العلماء الجمهور إلى أن معظم الحطام الناتج عن قنبلة القيصر، سيبقى عاليًا في طبقة الستراتوسفير، وستفقد نشاطها الإشعاعي تدريجيًا، بالتزامن مع الوقت الذي تسقط فيه على الأرض.

أكبر من أن نخاف منها:

تصدرت قنبلة قيصر عناوين الصحف في الولايات المتحدة، ولكن المسؤولين الحكوميين لم يتأثروا بهذا العرض الكابوسي للتدمير النووي.

وأفاد الصحفي المتخصص في شؤون الطيران (توم ديمرلي)، أن الولايات المتحدة كانت لديها حلقات متحدة المركز من الدفاعات، وكانت تتضمن رادار الإنذار المبكر من الطائرات المقاتلة، وصواريخ أرض جو.

الأمر الذي كان سيجعل نجاح القاذفة السوفيتية في القيام بالضربة الأولى أكثر صعوبة، وإن جهازًا ضخمًا مثل قنبلة قيصر، كان خطيرًا على الطائرة التي أسقطته، لدرجة أن طاقم (Tu 95)، لم يُمنح سوى فرصة 50% للنجاة من ضربتهم.

يشرح روبرت ستانديش نوريس، الزميل البارز للسياسة النووية في اتحاد العلماء الأمريكيين عبر البريد الإلكتروني، أن الولايات المتحدة نظرت في خيار القنبلة الكبيرة، وقررت أنه من الناحية النظرية، لا يوجد حد لمدى ضخامة القنبلة الهيدروجينية. وإذا استخدمت قنبلة قيصر في ميدان المعارك، من الواضح أنها ستقتل الكثير من الناس. وقد أصبحت الدقة خيارًا الآن، فإذا جرى تحسينها بمقدار النصف، يمكن خفض القوة التدميرية ثُمنَ ما هي عليه. وبناءً على ذلك، هذا ما فعلوه وتبعهم به السوفييت.

يوضح بافيل بودفيج -محلل الأسلحة النووية مدة طويلة- الذي عمل مع الأمم المتحدة وبرامج دراسات الأمن القومي في جامعتي برينستون وستانفورد، إلى جانب إدارة موقع (russianforces.org): «لقد أدرك الجميع أن هذه القنبلة أكبر من أن تكون سلاحًا عمليًا، ومن وجهة نظر القوة التدميرية، من الأفضل استخدام عدة أسلحة أصغر من سلاح واحد كبير».

انتهى الأمر بقنبلة قيصر لتكون مصدر فضول مروع في العصر النووي، إذ يقول بودفيج: «لم تُصنع أية أجهزة إضافية من هذا النوع».

بدلًا من ذلك، اتبع الاتحاد السوفياتي مسارًا مختلفًا. فبعد سنوات قليلة من اختبار قنبلة قيصر ، حقق مصممو الصواريخ السوفيتية اختراقًا كبيرًا باستخدام الوقود السائل، ما أفسح الطريق لإنتاج صواريخ استراتيجية يمكن أن تظل جاهزة للإطلاق لفترات طويلة ومخبأة في صوامع محمية.

وحول هذا الأمر يشرح سوكوف: «بين عامي 1964-1965، اتجه الاتحاد السوفيتي بنحو حاسم نحو التركيز على الصواريخ الباليستية العابرة للقارات، التي يمكن أن تحمل عدة رؤوس حربية، كل منها يضرب هدفًا مختلفًا، وبلغت عادة نحو 60-65 بالمئة من قوتها الاستراتيجية حتى منتصف التسعينيات تقريبًا، وعندها انخفضت إلى نحو 50 بالمئة».

أما بحلول سبعينيات القرن الماضي، كانت 5 بالمئة فقط من الترسانة النووية السوفيتية قنابل يمكن إسقاطها بوساطة الطائرات.

هذا الأمر اتخذ منحى مختلفًا كليًا!

أبلغ السوفييت الولايات المتحدة مسبقًا بعزمهم على اختبار قنبلة نووية بقوة 50 ميغا طن، وتعقيبًا على ذلك، أشار نائب وزير الدفاع الأمريكي (روزويل جيلباتريك) -في خطاب ألقاه قبل أسبوع واحد فقط من الانفجار- إلى أن هذه القنبلة لم تكن تهدف إلى تخويف الولايات المتحدة، بل إلى توجيه رسالة إلى حليف الاتحاد السوفيتي المضطرب الصين، وقال: «قد يكون هذا أيضًا رد الاتحاد السوفيتي على الصوت المتضارب من جاره المكتظ بالسكان في الجنوب».

اقرأ أيضًا:

القنبلة النووية العملاقة: تعرف على أكبر تجربة نووية في العالم

لماذا تشكل القنابل النووية سحبًا بشكل عيش الغراب؟

ترجمة: أحمد أبو شماله

تدقيق: جنى الغضبان

مراجعة: حسين جرود

المصدر