العلاج الجيني: استخدام الفيروسات لمنع الأمراض


في أواخر القرن العشرين، استطاع العلماء الوصول الى الرّمز الذي يحكم الكون الخاص بالخلايا الحيّة ويحدد صفاتها الخارجية والداخلية على حدّ سواء. يتشكلُ هذا النّص، أي الحمض النووي ((DNA الذي يتمركز في نواة الخليّة، من سياق بالغ التعقيد وترتيبٍ محدد لكلٍّ من القواعد النتروجينيّة الأربعة (ACGT)، تُسمّى الواحدة منها بالنوكليتيدة ((nucleotide. تُترجم أجزاء محدّدة من هذا الحمض النّووي إلى بروتينات للقيام بوظيفة معيّنة، وأيّ تغيرٍ فجائيّ فيه يسمّى بالطّفرة ((mutation. الطفرات قد تكون خَطِرة أو غير مؤذية، أو حتّى مفيدة. لكن ما الحلّ في أسوأ الحالات؟

التغيرٍ الخطير في هذا النّص سيؤدّي إلى إنتاج بروتينات معطّلة، مما سيؤدّي الى توقّف أو اضطراب وظيفة معيّنة في الجسم. ومن هنا تنشأ العديد من الأمراض الجينيّة كالتَّلَيُّف الكيسيّCystic Fibrois))، ومرض نزف الدم الوراثي (Hemophilia) وغيرها من الأمراض المميتة كالسّرطان، الأمر الذي دفع العلماء إلى الغوص في عالم الجينات وتطوير أساليب العلاج الجيني. فما هو هذا النوع من الأسلوب الطبي؟

العلاج الجيني بمفهومه العام هو عمليّة لا تزال تجريبيّة، تهدف إلى تصحيح العيوب في المعلومات الوراثية بتغيير جينة (جزء من DNA ترمز لتصنيع بروتينات معيّنة) معطّلة نتيجة طفرةٍ ما أو تصحيحها. كما تعزز قدرة الجسم على محاربة الأمراض، عبر تعديل الخلاية المستهدفة ليتعرّف عليها الجهاز المناعي.

الجزء المشوّق (والهزليّ في نفس الوقت) هو طريقة العلاج، فالعلماء يستخدمون فيه جزيئات قد تقتل البشر في بعض الاحيان، ألا وهي الفيروسات! لفهم آليّة العلاج، يجب التعرّف على ثلاثة أنواع من الفيروسات. النوع الاوّل هو الفيروسات الغُدَّانيّة (Adenoviruses) كتلك التّي تُسبب الرّشح وتكون غير محاطة بطبقة ثنائيّة من الدّهن. تملك هذه الفيروسات أليافًا تساعدها على الدخول إلى نواة الخلية واستخدامها للتّكاثر. أمّا النوع الثاني، فهي فيروسات مرتبطة بالفيروس الغُدّيAdeno associated viruses))، هذا الفيروس لا يصيب بأيّ مرض بشكلٍ عام ولا يؤدّي إلى تفاعل مناعيّ قويّ، كما أنّه يحتاج إلى التّواجد مع الفيروس الغُدّانيّ للتكاثر. أخيرًا، النّوع الثاث هي الفيروسات القَهقَريّة ((Retroviruses، وتكون مغلّفة بطبقة دهنيّة. تتكاثرهذه عبر إدخال حمضها النوويّ الرّيبيّ (نسخة عن الحمض النوويّ ويتألّف من النوكليتيدات AUGC) مع أنزيمات تحولّه إلى حمض نوويّ للاندماج مع ذاك الخاص بالخليّة. مثال على هذا النّوع من الفيروسات هو فيروس (HIV) الذّي يسبب مرض الإيدزAIDS) ).

للعلاج نوعان: إمّا يتم داخل الجسم أو خارجه. عندما يكون داخل الجسم، استخدم العلماء الفيروس الغُدّانيّ في المرحلة الأولية لكّنه شكل خطرًا على المرضى. اليوم، توصّلوا إلى وسيلة أفضل تتمثّل بزرع حمض نووي حميد من الفيروس الغُدّانيّ في الفيروس المرتبط بالغدّانيّ؛ ليستطيع العيش والتكاثر لوحده. وبعد تزويده بالجينات العلاجيّة يُدخِلونه الجسم ويستغلّون قابليّته للتكاثر ودمج الجينة بالحمض النوويّ للمرضى.

أمّا خارج الجسم، فيستخدم الباحثون الفيروسات القَهقَريّة. أوّلًا يستأصلون خزعة من النّخاع ثمّ يفصلون الخلايا غير الناضجة منها. بعد تزويد الفيروس بالجينة المناسبة يحقنون الخلايا به. بعد ذلك يتم إدخال الخلايا إلى الدّم، فتّتجه إلى النخاع وتتكاثر حتّى تُبدّل الخلايا المريضة (ذات طفرة جينيّة).

عندما نفكّر بهذا النّوع من العلاج نتخيّل أفلام الخيال العلميّ ويعمّنا الحماس، لأن الأطباء على وشك التوصّل إلى الحلّ السحريّ. لكن، هل حقًا هو كذلك؟ المؤسف في الأمر هو أنّه كغيره من العلاجات الأوليّة يحمل معه العديد من المخاطر. قد تقوم الفيروسات القَهقَريًة بدمج حمضها النوويّ في أيّ موضعِ فتعطّل عمل جيناتٍ أخرى. ليس هذا فقط، بل كغيرها من الجزيئات الغريبة، ستفعّل هذه الفيروسات الجهاز المناعي وتؤدّي إلى الالتهابات. بالإضافة إلى إمكانية الجينة الجديدة بتفعيل إنتاج كميّة كبيرة جدًّا من البروتينات فتسبب مشاكل صحيّة أخرى.

لكنّ الأمل لم ينقطع. يعمل الباحثون على أساليب تجعل هذا العلاج فعّالاً أكثر، وعندما ينجحون في ذلك ستُفتحُ آفاق واسعة في مجال محاربة أكثر الأمراض خطورةً كالسّرطان.


إعداد: محمد ع. حيدر
تدقيق: دانه أبو فرحة
المصدر 1
المصدر 2