الطاقة المتجددة لمستقبل بلا فقر


الاعتماد على مصادر الطاقة المُتجدِّدة كأداة رئيسيَّة لمُحاربة الفقر هو ميزة جديدة تُضاف إلى المميزات المعروفة عن الطاقة المُتجدِّدة كونها بديل لمستقبل آمن، نظيف ومستديم. فالصراع من أجل نمو الطاقة المُتجدِّدة له أبعاد أكثر عمقًا وتعقيدًا تتعلق بصراع البشريَّة نحو عالم يختفي به الفقر وتتوزع موارده بعدالة تكفي وتفيض عن حاجة سكانه.

ووفقًا لتقرير عام 2015 للبنك الدولي فإنَّ تعداد سكان العالم الذي يقبع تحت خط الفقر «1.9 دولارًا يوميًا» قد وصل إلى 702 مليون نسمة عام 2015، أي ما يُعادل 9.6% من إجمالي سكان العالم. وتعد هذه النسبة بحد ذاتها قفزة تاريخيَّة للبشريَّة أن يُعاني أحد أعشار العالم فقط من شدة الفقر، فهذا شيء لم يشهده تاريخ البشريَّة المُسجَّل من قبل. فإن كُنا سننسب هذا التقدم الحضاري لشيء فهو لنشاط السوق التجاري العالمي وكذلك لنمو الوعي الاجتماعي والسياسي لسكان العالم. ورغم هذه النظرة المتفائلة إلَّا أنَّه لايزال في عالمنا «المُـترف» اليوم قرابة الـ 1.2 مليار نسمة، أي بمعدل شخص من كل سبعة أفراد محرومون من التزود بمصدر مستقر للكهرباء، فهل القضاء على فقر الطاقة هو السبيل للقضاء على الفقر بشكل كلي؟ وهل تكون الطاقة المُتجدِّدة هي مفتاح العالم لذلك؟

علاقة الطاقة المُتجدِّدة بالفقر؟
Energyhalfconservation72-a42e3f75
تتبنى الآراء الاقتصاديَّة الحديثة لمكافحة الفقر وتحقيق النمو في الاقتصادات النامية نظرية التنمية غير المركزيَّة وما يلحق بها من دعم للمشاريع متوسطة الحجم والصغيرة. فبينما قد فشلت في أغلب التجارب المُعاصرة نظريات النمو الشمولي، التي تعتمد فيها الدول على اقتصاد الدولة والمشاريع القوميَّة لإنعاش السوق وتحقيق الازدهار، توجهت كثير من الاقتصادات النامية مؤخرًا إلى تمكين المشاريع الصغيرة وتمويل الاستثمارات غير المركزيَّة وتشجيع المستثمرين الصغار لتحريك السوق من خلال أنشطة صغيرة متراكمة وغير مركزيَّة. وتعتقد مثل هذه الآراء التقدميَّة في خلق تنافسيَّة تعدديَّة ومراكز قوى متوازنة في اقتصاد يخلو من احتكار مُخِل وشركات عملاقة تحكم مساره وتستنفد خيراته.

وحينما نتحدث عن الطاقة، فإنَّنا نذكر المحرِّك الرئيسي لأي اقتصاد حديث. وأينما حلَّت الطاقة، وجدت الصناعة والانتاج، وحيثما وجدت الطاقة وجدت أيضًا أسواق الاستهلاك واكتملت دورة المال في سوق نشط. فالدولة التي تفشل في تقديم خدمات طاقة مستقرة ومُستدامة، سيهرب منها أصحاب المصانع ويصعب على التجار التنقل بالبضائع فيها، ولن تجد بأسواقها مُستهلِك يطلب خدمة أو يشتري مُنتَج يتوقف تشغيله على مصدر للطاقة. وبينما فشلت مصادر الطاقة التقليديَّة «الوقود الحفري» عن الوصول إلى الفرد السابع من سكان العالم حتى اليوم، فإنَّها قد خلَّفت شبكة من الشركات العملاقة التي تتحكَّم في مواقع التنقيب عن النفط ومحطات توليد وتوزيع الكهرباء، وتُسيطر بذلك على معظم ثروات العالم. فقد نجحت تلك المنظومة المُخيفة لعمالقة الطاقة التقليديَّة في عزل أكثر من مليار شخص عن الكهرباء وتركهم بلا مصدر مُستقر للدخل والرفاهيَّة، كما أصبحت كذلك عبءً ثقيلًا على صدر كل دولة تُصارع للنمو بتحكُّمها في مسارات النمو ونوع المشاريع القوميَّة وهيكلة توزيع الدخل بين السكان.

وقد أتت اليوم مصادر الطاقة المُتجدِّدة بحلٍ يقلب معايير النمو الاقتصادي التقليديَّة، وذلك بتمكينها سبل النمو اللامركزي من أسفل إلى أعلى. حيث تتميز مشاريع الطاقة المُتجدِّدة، بإتاحتها إقامة وحدات توليد للطاقة مُتناهية الصغر تُحقِّق جدوى اقتصاديَّة فعليَّة. فبينما يتقيد مُنتجو الطاقة التقليديَّة باستثمار ابتدائي ضخم لبناء محطة توليد للطاقة تظل تحت رحمة سوق معقد بتفاصيل صراع شركات النفط والسياسيين لتزويدها بدفعات وقود تتغير أسعاره بشكل دائم، كما وسيحتاج مُشغِّل وحدة الطاقة الشمسيَّة إلى سقف لبيت بسيط وغرفة صغيرة لتخزين المُحولات والبطاريات الكهربائيَّة لتوليد الطاقة ولا ينتظر شيئًا من العالم سوى سطوع الشمس في الصباح التالي.

كيف يصبحون أغنياء بامتلاك طاقة مُتجدِّدة؟

وبتخيل نموذج بسيط لقرية أفريقيَّة نائية معزولة عن شبكة الكهرباء ومصادر الطاقة التقليديَّة، ماذا إن نجحت هذه القرية في إنشاء وحدات محدودة لتوليد الطاقة من المصادر المُتجدِّدة المُتاحة، فكيف يمكن لذلك أن يرفع سكان تلك القرية فوق خط الفقر؟

«الطاقة تعني وقت»، فبعدها لن يحتاج سكان القرية أن يهدروا ساعات وأيام في تجميع الحطب أو السفر إلى أقرب مدينة لشراء الوقود، وبإتاحة وجود بعض الأجهزة الكهربائيَّة في المنازل سيتفرَّغ السكان للتعليم المهني والأكاديمي الذي يفتح لهم مصادر للدخل مستقبليَّة.
«الطاقة تعني صناعة»، فسيتمكن الحرفيون وأصحاب الخبرات والمهارات بهذه القرية من امتلاك وحدات صغيرة يُخصصونها لماكينات تُدرَج في ورش إنتاج يديرون من خلالها صناعة صغيرة مُربحة بمنتجات تُباع في سوق القرية وتُصدَّر للخارج.

«الطاقة تعني صحة»، فستزود مصادر الطاقة المُتجدِّدة القرية وأهلها بمصدر صحي للطاقة يحميهم من مُخلَّفات حرق الوقود بالمنازل كما يُمكِّنهم من استحضار معدات لضخ المياه النقيَّة والصرف الصحي لحماية السكان من الأمراض الوبائيَّة، وإيجاد مجتمع صحي مُنتِج لا يقع تحت وطأة معدلات الوفاة والمرض المُهلكة.

كما ستُمكِّن مصادر الطاقة المُتجدِّدة سكان القرية من امتلاك وسائل اتصال مُتقدمة، للحماية من مخاطر الحريق بالوقود وخلق مساحات جديدة لفرص عمل وتعلُّم حِرف تتعلَّق بإنشاء وتركيب وتشغيل المحطات والانفصال عن الاعتماد على الدولة وبيروقراطيتها المعقدة.

أمثلة من حول العالم

وفقًا لتقرير العام الحالي 2016 عن شبكة سياسة الطاقة المُتجدِّدة للقرن الواحد والعشرين «REN21»، فإنَّ العام 2015 قد شهد أعلى قيمة للإنشاءات في مشاريع الطاقة المُتجدِّدة بلغت 147 جيجا واط.

وقد غطى الإنتاج العالمي من الطاقة المُتجدِّدة بهذه الزيادة نسبة 23.7% من إجمالي الطاقة المُستهلكة عالميًا، وبلغت نسبة مشاريع الطاقة الشمسيَّة وحدها قرابة الـ 70% من إجمالي مشاريع الطاقة عالميًا. وقد أتاحت هذه المعدلات المهولة 8.1 مليون وظيفة في مجال الطاقة المُتجدِّدة على مستوى العالم. وبينما وصلت الدول المُتقدِّمة إلى نسب ضخمة من محطات الطاقة المُتجدِّدة واستقرت أسواقها على معدلات نمو بطيئة، تتجه أنظار العالم والمستثمرين في هذا المجال اليوم إلى الدول النامية التي تمتلك إمكانيات طبيعيَّة -في أغلب الأحيان- هائلة لتوليد الطاقة المُتجدِّدة وتحقيق نمو اقتصادي يُحرِّكه مستقبل مزود بمعدلات مضمونة من الطاقة.

وتأتي المغرب في البداية كنموذج واعد للدول العربيَّة والأفريقيَّة، حيث تتبنى المملكة هدفًا لتوليد الطاقة بنسبة 42% من المصادر المُتجدِّدة بحلول عام 2020، وذلك من خلال إنشاء مفهوم «السوبر جريد» الذي تتكامل فيه مصادر الطاقة الشمسيَّة وطاقة الرياح والطاقة الهيدروليكيَّة والوقود الحيوي معًا في شبكة إنتاج موحدة. وقد نمت قيمة الاستثمارات في المملكة من 297 مليون دولار عام 2012 إلى 1.8 مليار دولار في عام واحد، وجاء ذلك نتيجةً لخفض بالغ في إعانات محطات الوقود الحفري.

كما وتعتبر المملكة الهاشميَّة الأردنيَّة النموذج الأكثر صعوبة في المنطقة العربيَّة، حيث تفتقد الأردن – بخلاف أغلب دول الشرق الأوسط- لمصادر الوقود الحفري، فتعتمد المملكة بنسبة 96% على استيراد الطاقة من الخارج. وعلى الجانب الآخر تمتلك الأردن قدرات طبيعيَّة هائلة لتوليد الطاقة المُتجدِّدة بامتلاكها ثلاثة أضعاف قدرة دولة مثل ألمانيا من الطاقة الشمسيَّة ومع ذلك لا تزال الطاقة المُتجدِّدة تُساهم بنسبة لا تتجاوز 4% من إجمالي الطاقة المستهلكة بالمملكة. وقد بدأت الدولة بالفعل الالتفاف لخلق تنوع في مصادر الطاقة ووضعت هدفًا لرفع نسبة مساهمة الطاقة المُتجدِّدة إلى 10% بحلول عام 2020 مع وضع سياسات عامة لخفض الدعم على النفط ومنتجاته وتشجيع الاستثمارات في محطات التوليد المُهجَّنة والمُتجدِّدة.

وإذا ذهبنا إلى بنغلاديش فسنجد كيف ضربت المجتمعات المحليَّة والدولة نموذجًا ممتازًا لتشغيل الطاقة المُتجدِّدة في مكافحة الفقر بتعداد وظائف وصل إلى 70 ألف وظيفة في مجال الطاقة الشمسيَّة. وبعد أن نجحت الطاقة المُتجدِّدة من الوصول إلى 10% من السكان «15 مليون نسمة» ضاعفت الحكومة هدفها للوصول إلى إجمالي إنتاج من الطاقة المُتجدِّدة بقيمة 25 جيجا واط بقدوم عام 2020. وتُعدُّ قرية «كوليا» بمقاطعة «كولنا» إحدى الأمثلة العالميَّة للنمو اللامركزي للطاقة المُتجدِّدة من خلال مبادرة قادتها مُزارِعة تُدعى «مارينا بيجوم- Marjina Begum». فقد تعلَّمت مارينا بنفسها كيفية توصيل وصيانة وحدة طاقة شمسيَّة محدودة «40 واط»، وبدأت من منزلها لتحد من اعتمادها على الشبكة الرئيسيَّة المُتقطِّعة، فلبَّت احتياجاتها المنزليَّة وذلك بدايةً من ماكينة الخياطة إلى شحن الهواتف المحمولة وحتى تشغيل التلفاز، ثم انتشر نموذج مارينا بين جيرانها إلى أن وصلت بالقرية كلها إلى اعتماد 100% على مصادر الطاقة المُتجدِّدة، مما أضاف تغييرًا اجتماعيًا واقتصاديًا على حال القرية إجمالًا.

وهناك في جنوب الهند، استطاع برنامج تنمية موجه لولاية «كارناتاكا» من تزويد العائلات الفقيرة بقروض تمويل لمشروعات الطاقة المُتجدِّدة متناهية الصغر وصلت إلى إجمالي 3.2 مليون دولار، تمثَّلت فيما يُقارب 20 ألف وحدة من محطات الوقود العضوي وبيوت الطاقة الشمسيَّة. وتتراوح تكلفة الوحدة منهم بين 280-400 دولارًا لتشغيل حمل كهربائي يلزم للإضاءة وشحن الهواتف أو تشغيل مواقد الطعام، مما أتاح للعائلات مساحة للدراسة والعمل وتحرير الفتيات من مهام توفير حطب الوقود.

وسنذهب أخيرًا إلى مكان أبعد من ذلك، إلى استراليا، فالدولة التي لا تُعدُّ ضمن دول العالم النامي لكن لا يزال بعض سكانها يعيشون في مناطق نائية بمعدلات معيشة تُقارب سكان الدول النامية. وهناك على حدود مقاطعة «تينانت كرييك» شمال استراليا، تسكن جماعتين من السكان الأصليين لأستراليا بمنازل معزولة عن شبكة الكهرباء الرئيسيَّة، وبعد معاناة تمثَّلت في 2000 دولار أسبوعيًا تتحملها خمس منازل لشراء وقود الديزل اللازم لاحتياجاتهم اليوميَّة، اضطروا جميعًا للنزوح من منازلهم تمامًا. ذلك حتى جاءت فكرة الاقتراض لإنشاء خلايا شمسيَّة لتوليد الطاقة فأحيت هذا المجتمع الصغير من جديد. فقد تضاعف اليوم تعداد السكان في هذا الحي، فلم تُقدِّم الطاقة الشمسيَّة لهم حلًا اقتصاديًا موفِرًا فقط، بل أتاحت لهم حلًا لتبريد بيوتهم من حرارة الشمس دون معاناة جلب وإحراق الوقود، كما أصبح بإمكانهم إحضار معدات الزراعة التي ستوفر فرص عمل لأبنائهم وتجلب مزيدًا من السكان إلى حيهم المتنامي.
power-to-the-people-424x318
فأمثلة المجتمعات الصغيرة التي تُسجل تجربتها مع الطاقة المُتجدِّدة لا تنتهي على مستوى العالم، ومع انخفاض الأسعار والتطور المستمر في إمكانيات تكنولوجيا الطاقة المُتجدِّدة، ستصبح الحلول اللامركزيَّة لتوليد الطاقة المُتجدِّدة أكثر إغراءً للمستثمرين والسكان المحليين، وستُبرهن النتائج التي تشهدها كل قرية أعيدت للحياة وتخطَّت الفقر على أن العالم اليوم أقرب للاكتفاء الذاتي والتوزيع العادل للثروات من أي وقت مضى.

إعداد: أحمد الفقي
تدقيق: هبة فارس
المصدر 1
المصدر 2
المصدر 3
المصدر 4
المصدر 5
المصدر 6
المصدر 7