تعويم العملة، دروس على مصر أن تتعلمها

إذا كان على مصر أن تتعلم أي شيء عن تعويم العملة (حرية التداول) وتخليها عن التحكّم بالأسعار فهو أن خطوة كهذه إذا لم تستتبع بخطوات جذرية أخرى سيكون مصيرها الفشل. هكذا قرار لا يقبل أنصاف الحلول.

أعلنت مصر وهي دولة نامية في شمال إفريقيا عن تعويم الجنيه بشكل كامل يوم أمس، ما تسبب بانخفاض قيمته بنسبة 46٪ لتصل إلى حوالي ستة عشر جنيهاً لكل دولار.
إذا كانت هذه الخطوة تهدف للتخفيف من أزمة الدولار وإبطال دور السوق السوداء فعلى البنك المركزي المصري أن يلتزم بقراره وينأى بنفسه عن تقلّبات العملة في السوق.

1x-1

وإذا كان لتجارب دول مثل روسيا وكازاخستان والأرجنتين أي شيء لنستفيد منه، فإن النتائج الأولية التي تستحق كل هذا العناء ستبدء بالظهور بعد نحو عام واحد، وفقا لديفيد هاونرDavid Hauner الخبير الاستراتيجي في بنك اوف امريكا Bank of America فإن ضعف العملة سيجعل من الصادرات المصرية أكثر قدرة على المنافسة، كما سيعزز من قطاع السياحة في البلاد الذي سيجذب بدوره أعدادًا أكبر من السياح الذين سيحملون معهم عملات صعبة تتوق السوق المصرية لها بعد آثار الربيع العربي السلبية على الاقتصاد.

ويقول ديفيد هاونر من لندن: <<إن أي خيار يفتقد للمصداقية والشفافية سيكون خياراً سيّئاً له نتائج سلبية للغاية. هذا التحوّل الذي تمر به البلاد ليس سهلا أبداً. ومن المؤكّد أن الفترة القادمة ستكون صعبة للغاية، ولكن عندما ننظر إلى تجربة البلدان التي انتقلت إلى تعويم عملاتها (بمعنى حرية تداولها)، سنجد أنها من الممكن أن تستفيد على المدى البعيد إذا أحسنت التصرّف واستتبعت قرارها بخطوات إصلاحية جذرية.

بالنسبة لبلد مثل مصر التي طالما تحكمت في سعر صرف عملتها، فإن هذا التحول سيكون صعبا. هذا الوضع سيترافق مع ارتفاع تكاليف الواردات وسوف يزيد من التضخم ويجعل الحياة أكثر صعوبة بالنسبة ل92 مليون مواطن الذين يكون دخل الفرد عندهم من بين أدنى المعدلات في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.

لكن علينا أن نعي أن أي قطيعة غير تامة في العلاقة بين المصرف المركزي و سعر العملة سيكون مسمارًا يضرب بنعش الاقتصاد المصري. هذا القرار نهائي الآن والرجوع عنه انتحار. عندما يعزف صانعو السياسة عن التحكم في سعر الصرف، فإن النشاط في السوق السوداء سيشهد ارتباكًا وعواصف لا محالة، وتجربة نيجيريا مع حرية تداول (التعويم) تشهد على هذا، كما يمكن أن يكون هذا الإجراء مكلفاً جداً للاقتصاد الوطني، حيث خسرت روسيا حوالي 90 مليار دولار في دفاعها عن عملتها عام 2014 قبل أن تستسلم نهاية المطاف.

وحتى في مصر، وأثناء محاولات الدولة لإدارة الجنيه بدلا من فك الارتباط تماماً بالعملات الصعبة في عام 2003 أدى لارتفاع أسعار التداول بشكل كبير ودفع الأفراد والشركات على اكتناز الدولارات لأنهم أصبحوا يفتقرون إلى الثقة في استقرار سعر العملة.

فيما يلي ملخص لتجارب خمسة أسواق في خمسة دول فكّت الارتباط بالدولار وأقرت بحرية التداول (أي التعويم)

روسيا :

ما الذي حدث؟
محافظة البنك المركزي الروسي الفيرا نابيولينا ألغت التدخل في تحديد سعر العملة في نوفمبر تشرين الثاني عام 2014 وذلك بسبب معاناة البلاد من العقوبات والتراجع في أسعار النفط والصادرات الرئيسية الأخرى. الروبل الروسي لا يزال متراجعا بنحو 32 في المئة منذ ذلك الحين.

هل كان ذلك فعالاً؟
بعد عامين، سعر الروبل الروسي أدنى من سعره قبل الانهيار وتعويم العملة الروسية، توقعات التضخم في انخفاض، وقد تباطأ صافي تدفقات رأس المال، وقد أشادت نابيولينا بهذا الإجراء الذي اتخذه البنك المركزي

ما هو أكثر من ذلك، فقد الروس اهتمامهم بتجارة العملة وها هم يبقون اليوم على 60 في المئة من مدخراتهم بالروبل الروسي وليس بعملات صعبة أخرى، وفقا لاستطلاع للرأي نشر في اغسطس اب.

كازاخستان :

ماذا حدث؟
قرر صناع الساسة في 20 أغسطس 2015، تعويم العملة (السماح بحرية التداول) لتتناسب مع تخفيض قيمة العملة من قبل الصين وروسيا -جارتيها وأكبر الشركاء التجاريين لها- والتنغ (عملتهم ) منذ ذلك الحين تراجعت بنسبة 42 في المئة.

هل كان ذلك فعالا؟
بعد هذه الخطوة، واضطر البنك المركزي للبلاد لاستخدام 1،7 مليار دولار على الأقل، أو ما يعادل 6 في المئة من الاحتياطيات المركزية، لضمان سلامة التقلبات في سوق العملات حيث أصبحت عملتهم هي العملة الأكثر تقلبا في العالم. وبعد ذلك بعام، استقر التنغ وارتفعت احتياطيات العملة الأجنبية إلى ما يصل نحو 13 في المئة لتصل الى ٣١ مليار دولار هذا العام.

الأرجنتين

ماذا حدث؟
فكّ الرئيس موريسيو ماكري ارتباط البيزو عملة الأرجنتين في 17 ديسمبر 2015. وتأتي هذه الخطوة كجزء من الإصلاح الاقتصادي الشامل الذي يهدف إلى جذب الاستثمارات والقفز بالاقتصاد الذي يعاني من ضعف النمو ونقص في الدولارات.

هل كان ذلك فعالا؟
على الرغم من تراجع العملة بنسبة 27٪ في اليوم الأول لحرية التداول، لكن الاشارات الايجابية ظهرت مع انخفاض معدلات التضخم في البلاد. تراجع البيزو بشكل كبير في تقلبات تاريخية ليصل الى أدنى المعدلات في أمريكا اللاتينية
أظهر المستثمرون ثقتهم في البلاد هذا العام عبر اكتتابهم بما قيمته 33 مليار دولار من السندات الدولية، في الوقت الذي انخفض فيه بشكل كبير نشاط السوق السوداء.

أذربيجان

ماذا حدث؟
انتقل منتج للنفط والبلد السابق في الاتحاد السوفيتي إلى التعويم الحر لعملته يوم 21 ديسمبر بعد استهلاك البنك المركزي لأكثر من ثلثي الاحتياطيات لدعم عملته. وقد انخفضت العملة منذ ذلك الحين بنسبة 39 بالمئة.

هل كان ذلك فعالا؟
تدخلت السلطات لدعم العملة في سبتمبر بعد أن سجلت انخفاضات كبيرة لمدة ثلاثة أشهر، مما اضطر البنوك إما لوقف أو الحد من مبيعاتها من الدولارات. في حين استقرت العملة بشكل نسبي، وهذا يعكس فشل أذربيجان لاستعادة ثقة الناس بعد تخفيض قيمة العملة. والآن ما يقرب من 80 في المئة من احتياطيات أذربيجان هي الآن بالدولار وليس بالعملة المحلية.

نيجيريا

ماذا حدث؟
مارس صناع السياسة في ثاني أكبر منتج للنفط في افريقيا الضغوط لوقف تحديد سعر صرف النايرا يوم 20 يونيو حزيران لصالح حرية تداول أو التعويم. ولقد هبطت قيمة العملة 38 في المئة منذ ذلك الحين.

هل كان ذلك فعالا؟
هذه الخطوة لم تنجح في جذب المستثمرين مرة اخرى، أولئك المستثمرين الذين انتقدوا البنك المركزي لتحرير سعر الصرف بحيث كان تداول في نطاق ضيق ومستقر نسبياً ليهبط ويصبح بحوالي 315 نايرا مقابل الدولار منذ أغسطس.
ونتيجة لذلك، فإن الفارق بين أسعار السوق السوداء والأسعار الرسمية الآن يعود إلى مستويات ما قبل تخفيض قيمة العملة تقريباً ولم ينجح في ايقاف السوق السوداء. احتياطيات العملات الأجنبية، وفي الوقت نفسه، استمرت بالتناقص والوقوف على أقل من اربعة وعشرين مليار دولار اي حوالي 4 مليارات دولار أقل مما كانت عليه في بداية العام.

ما هي الدروس التي نستقيها إذًا؟
عرضنا عليكم خمس تجارب حديثة لتحرير العملة، فشل بعضها و نجح بعضها الآخر، لكن ما يصح في الأرجنتين أو روسيا لا يصحّ في مصر. الجنيه المصري سجّل في يومه الأول أعلى نسبة خسائر بين الدول المذكورة في هذه المقالة، وانعدام الثقة بالاقتصاد المصري ليس بالأمر المشجّع على الإطلاق، وعليه على الحكومة أن تتبع قرارها باجراءات جدّية لإعادة اكتساب الثقة في منطقة تعاني أصلًا بسبب انخفاض أسعار النفط والتقلّبات السياسية الدراماتيكية. المستقبل يبدو ضبابيًا والتنبؤ فيه كالضرب بالرمل. وبما أن التراجع عن هكذا خطوة انتحار، على صانع القرار المصري أن يستمر حتى النهاية، بخطوات شفافة وحاسمة وإلا سيذهب صبر المصريين المطلوب سدى.

 

المصدر