في جعبة الفأر المنزلي حكاية تطور المجتمعات البشرية


أشار بحث حديث في دورية الأكاديمية الوطنية للعلوم إلى أنه قبل ظهور الزراعة بوقتٍ طويل، بدأ الصيادون- جامعو الطعام بالاستيطان في منطقة الشرق الأوسط وبناء منازل أكثر استقرارًا، كما قاموا بإحداث تغييرات في التوازن البيئي بطرقٍ عديدة سمحت للفأر المنزلي بالازدهار والتزايد.

وقالت فيونا مارشال المؤلفة المشاركة في الدراسة وأستاذة الأنثروبولوجيا في جامعة واشنطن في سانت لويس: “إن هذا البحث يقدم أولى الدلائل على أنه كان للبشر الذين عاشوا قبل 15000 عام و في نفس المكان تأثير كبير على مجتمعات الحيوانات المحلية، مما أدى إلى هيمنة وجود الفأر المنزلي بالنسبة لبقية الحيوانات”. وأضافت قائلة: “من الواضح أن الوجود الدائم لهذه المستوطنات كان له عواقب بعيدة المدى على البيئات المحلية، وتدجين الحيوانات والمجتمعات البشرية”.

واعتبرت مارشال -إحدى الخبراء المشهورين في تدجين الحيوانات- أن البحث مثير للاهتمام لأنه يوضح أن الصيادين- جامعي الطعام المستوطنين هم أول من قام بتغيير العلاقات البيئية مع الثدييات الصغيرة و ليس المزارعين، وذلك عن طريق تأمين وصول دائم إلى المأوى والغذاء البشري حيث قادوا الفأر المنزلي نحو السبيل الأمثل لبناء علاقة المعايشة (المؤاكلة) وهي مرحلة مبكرة في عملية التدجين والتي تتعلم الأنواع من خلالها الاستفادة من التفاعل مع البشر. وكان لهذه النتائج أثرها الكبير على العمليات التي أدت إلى تدجين الحيوانات.

وقال كل من جيمس دبليو، وجان إل.ديفيس -البروفسور في الآداب والعلوم-، ومارشال: “قدمت النتائج أدلة واضحة على أن الطرق التي حدد بها البشر شكل العالم الطبيعي مرتبطة بتنوع قدرة البشر على التنقل”، وأضافوا قائلين: “تُرجح هذه النتائج أن أصول تدجين الحيوانات تعود إلى الهجرة الانسانية التي سبقت وبآلاف السنين ما اعتُبر فجرعملية الزراعة وبدايتها”.

بقيادة توماس كوتشي من المركز الوطني للبحوث العلمية في باريس بفرنسا، وليور فايسبرود من جامعة حيفا في إسرائيل، شرحت الدراسة التأرجح والتقلبات الكبيرة في نسب الفئران المنزلية مقارنة بأعداد جماعات الفئران البرية وذلك استنادًا إلى الحفريات التي تعود لعصورما قبل التاريخ والتي عُثرعليها في موقع الناطفية القديم الذي سكنه الصيادون- جامعو الثمار في غور الأردن في إسرائيل.

وبفحص الفروقات الدقيقة العائدة لأنواع الفئران في أشكال ضروس الفئران المتحجرة، والتي يعود تاريخها لمئتي ألف عام، صنع العلماء جدولا زمنيًا يبين كيف تغيرت أعداد جماعات الفئران المختلفة في موقع الناطفية القديم خلال الفترات التي تغيرت فيها تنقلات البشر.
وكشف التحليل مدى تأثير التنقل البشري على العلاقات التنافسية بين نوعين من الفئران: الأول هو الفأر المنزلي (Mus musculus domesticus)، والثاني هو فأر الحقل قصير الذيل (M. macedonicus) والذي لا يزال يعيش حتى الآن ضمن المستوطنات الحديثة وحولها في إسرائيل. وهذه العلاقات المكتشفة مماثلة لتلك التي اكتشفتها مارشال و فايسبرود عند نوعين آخرين ينتميان لما يُعرف بالفئران الشوكية بين رعاة الماساي وهم أشباه البدو في كينيا الجنوبية.

وتشير النتائج إلى أن الفئران المنزلية قد بدأت بالتغلغل في مساكن الصيادين في منطقة الناطفية بغور الأردن منذ حوالي 15 ألف سنة، وأن تعداد جماعات الفئران تأرجح بين الازدهار و الانخفاض استنادًا إلى المجتمعات البشرية التي احتوتها وتبعًا لتنقل هذه المجتمعات.

وعندما كان البشر يمكثون في نفس الأماكن لفترات طويلة، كانت الفئران تتنافس مع أبناء عمومتها البرية لدرجة إبعادها لخارج المستوطنة، وفي الأوقات التي كان يحدث فيها جفاف أو نقص في موارد الغذاء أو أية ظروف أخرى كانت تجبر الصيادين على تغيير موقعهم أكثر من مرة، حتى أصبح هناك توازن في تعداد جماعات الفأر المنزلي وفأر الحقل مماثل لذلك التوازن الموجود بين الفئران المرافقة لرعاة الماساي الحديثين ذوي أنماط التنقل المماثلة.

و تؤكد الدراسة أن الفئران المنزلية قد كانت بالفعل مرافقًا أساسيًا في مساكن قرى الصيادين في شرق البحر الأبيض المتوسط منذ أكثر من 3 آلاف سنة قبل وجود أي دليل معروف للزراعة المستقرة.

واقترحت الدراسة أن مستوطنات الصيادين في وقت مبكر قد ساهمت في تغيير التفاعلات البيئية والشبكات الغذائية مما سمح للفئران المنزلية -والتي استفادت من المستوطنات البشرية- باستبعاد أنواع الفئران البرية الأخرى لتصبح الجماعة المسيطرة.

وقال فايسبرود، وهو زميل باحث في معهد زينمان للآثار في جامعة حيفا: “استمرت المنافسة بين الفئران المنزلية المتعايشة مع البشر والفئران البرية بالتغير لتزداد أثناء تنقل البشر في أوقات الجفاف أو لتصبح أكثر استقرارًا في الأوقات الأخرى مما يدل على حساسية البيئات المحلية لدرجات التنقل البشري وتعقيد العلاقات بين البشر والبيئة في عصر البليستوسين”.

وتضمنت أبحاث فايسبرود تحليل بقايا الفقاريات الدقيقة على نطاق واسع من المواقع التاريخية وما قبل التاريخية في إسرائيل والقوقاز بالاعتماد على علم بيئة العصور الحجرية والتفاعلات بين الإنسان والأنظمة البيئية.

فعند تخرج فايسبرود في عام 2010 وبعد حصوله على درجة الدكتوراه في علم الأنثروبولوجيا الأثرية من جامعة واشنطن، بدأ البحث في هذه الدراسة كجزء من أطروحته لدراسة التقلبات في أعداد الفئران الحيوانات الصغيرة التي تعيش حول مستوطنات مراعي الماساي في كينيا. وقد ساعدت مارشال فايسبرود على تطوير السياق الإثنولوجي للأسئلة البحثية الأساسية حول الأثر البيئي للتنقل البشري وقاموا معاً ببناء هيكلية بيئية ميدانية لفهم العلاقات المتغيرة عبر الوقت بين الحيوانات و البشر مع التركيز في بحثهم على الحمير و الفئران.

استخدم كوشي–أثناء عمله في مخبره بباريس- تقنية جديدة تدعى “طريقة القياس الشكلية الهندسية” وذلك لتحديد حفريات الفئران وتمييز الفروق الضئيلة بينها بشكل موثوق في بقايا الفأر المنزلي والأنواع البرية، وتعتمد هذه الطريقة على تقنيات التصوير عالية الدقة والتحليل الرقمي لتصنيف الأنواع تبعًا للاختلافات المتعلقة بخطوط الأضراس والتي لا تتجاوز ثخانتها 1 ميليمتر.

تعتبر النتائج المكتشفة والتقنيات المستخدمة لتوثيقها مهمة جدًا بالنسبة للبحوث الأثرية لأنها -وعلى نطاق أشمل- تدعم وبشكل أكبر الفكرة الداعمة لاستخدام التقلبات في تعداد جماعات الفئران القديمة كبديل لتتبع التحولات القديمة في تنقل البشر وهجرتهم بالإضافة لأنماط الحياة والغذاء وتدجين الحيوانات.

وقال فايسبرود: “تقترح هذه الدراسات أن الصيادين- جامعي الثمار في موقع الناطفية وليس مزارعي العصر الحجري الحديث- هم أول من تبنى نمط الحياة المستقر، وبدأوا من غير قصد
نوعًا جديدًا من التفاعل البيئي (التعايش الوثيق مع الأنواع المتعايشة كفأر المنزل) وتابع قائلاً: “إن الديناميكية البشرية للانتقال بين الوجود المتنقل والاستقرار قد كُشفت في تفاصيل غير مسبوقة في سجل التقلبات في نسب النوعين عبر الزمن”.


ترجمة: علي بيشاني
تدقيق: منة الله عيد
المصدر