كون واحد أم أكوان متعددة؟


الأسطورة تقول إن الإنسان القديم عندما نظر إلي السماء وجد كل شيء يدور حوله .. الشمس والقمر والنجوم والكواكب .. من هنا أدرك الإنسان أن الأرض هي مركز الكون والكل يدور حوله .. إدراك ممزوج بيقين أنه كائن مهم سخرت له الطبيعة وها هي تدور حوله من أجل بقائه ورفاهيته ..تم وضع تصور أو نموذج لمركزية الأرض للكون المنظور من وجهة نظر القدماء علي يد أرسطو وغيره .. وبسبب أن هذه الفكرة أصبحت يقين فإنها امتزجت بعدة إعقادات حتي صارت الفكرة تأخذ شكل القداسة المحاطة برجال أسبغوا عليها اعتقاداتهم المختلفة بل وزادوا عليها باختيار مكان محدد في الأرض كمحور لهذا العالم بل و الكون باسره ويختلف هذا المكان من إعتقاد لأخر حسب نشأة هذا الأعتقاد.

فكرة إن هناك مركز.. هناك محور .. الإنسان مميز .. كلها أفكار اعتنقها الإنسان القديم من مجرد ملاحظة أن كل شيء يدور حوله ..و نتيجة تلاقي هذه الرؤية القديمة مع الاعتقادات فقد ظل الإيمان بها حتي القرن السابع عشر ميلاديا .

الزمن الذي ظهر به العالم جاليليو والذي تبني فيه نموذج كوبرنيكوس الذي يفسر حركة الأرض و الكواكب حول مركز جديد وهو الشمس .. نعم الأرض هنا شأنها شأن كل الكواكب تدور حول نجم يسمي الشمس وليست مميزة في شيء .. وكلنا يعلم رد فعل الكنيسة حينها حين زلزل جاليليو اعتقادهم بتميز الأرض و بمركزيتها لتصير محاكمته من أشهر محاكمات التاريخ .. حين يحاكم الجهل العلم .. حين تحاكم المواريث القبلية قوانين الطبيعة .. انتصر المنهج العلمي بانتصار مفاهيم الحداثة في الغرب لينطلق عقل الإنسان بلا قيود أو خطوط حمراء زائفة صنعها دجالون ليفك طلاسم الكون .

فجاء العملاق نيوتن ليضع قوانين الميكانيكا والجاذبية ليوحد فيها قوانين السماء مع قوانين الأرض بلغة لا يختلف عليها اثنان .. لغة الرياضيات .. ولكن إذا كانت الشمس هي مركز المجموعة الشمسية فهل يوجد شموس مثلها في الكون .

وهنا جاء دور العالم توماس رايت عام 1750 ليضع أول تصور دقيق عن توصيف النجوم التي نراها في الليل و هي عبار عن مجرة سميت بدرب اللبانة تشمل مليارات النجوم و الكواكب التي تدور حولها وفقا لقوانين نيوتن للجاذبية .

استمر الاعتقاد بإن الكون عبارة عن مجرة درب اللبانة حتي عشرينات القرن الماضي حينما اكتشف العالم هيبر كروتس طيف مستعر ( نوفا ) يتميز بخفوته الملحوظ عن طيف المستعر الناتج عن مجرة درب اللبانة مما جعله يرجح الفكرة القائلة بوجود عدد من المجرات المختلفة في هذا الكون والمميزة بأنظمتها .

هذه الفكرة في وقتها فتحت جدال علمي شهير بين العلماء هيبر كروتس و هارلو شابلي حيث الأول كان يعتقد إن هذه الملاحظات الكونية دليل دامغ علي أن مجرتنا ليست الوحيدة بهذا الكون بينما تبني العالم هارلو شابلي القول بأن الكون ما هو إلا مجرة درب اللبانة ليحسم الجدل في النهاية العالم إدوين هابل وتلسكوبه الشهير الذي قدم أدلة تجريبية دامغة علي صحة القول بان الكون عبارة عن مليارات المجرات .

نعم ما نراه ليس هو الكون إنما قطاع ضئيل من الكون والأرض أو الشمس أو حتي مجرتنا ليست شيء مميز علي الأطلاق في كون مليء بالمليارات من أشباههم .

ولكن مع تقدم وسائلنا التكنولوجية في رصد الكون و خصوصا برصد ما يعرف بإشعاع الخلفية الكونية وجدنا عدة ظواهر لم يكن لدينا لها تفسير حتي وقت قريب نسبيا .. هذه الظواهر تتعلق بملاحظة أن الكون في حالة تمدد مستمر و كذلك تم ملاحظة أن نسبة تجانس الكون تصل إلي نسبة واحد إلي عشرة الأف جزء والتجانس هنا معناه تماثل القيمة الفيزيائية بشكل خطي .

بالإضافة أنه تم ملاحظة أن الكون متماثل بشكل مداري أو في كل الاتجاهات أي تماثل القيمة الفيزيائية بشكل مداري بدرجة كبيرة .. بجانب أنه تم قياس هندسة الكون ككل من واقع القياسات التجريبية ووجد أن الكون له هندسة مستوية مما يفسر لما لا تتقاطع الخطوط المتوازية .

ولكن السؤال هنا لماذا هندسة الكون مستوية ؟ هذا بجانب السؤال البديهي لماذا يحتوي الكون علي المادة باختلاف مكوناتها ولماذا هناك شيء و لم يكن هناك لا شيء .. بل و لماذا يتصرف الكون علي هذا النحو ولماذا يبدو متجانسا علي الرغم من تباعد مكوناته عن بعضها بمسافات شاسعة .. بعض هذه الأسئلة تبدو لأول وهلة أنها اسئلة ميتافيزيقية أو خارج إطار الفيزياء .

وهذا ما اعتقده البعض فعلًا لفترة كبيرة من الزمن .. ولكني أعتقد إن جهلنا المؤقت بالإجابة لا يعني أن نملأها بالميتافيزيقا ! فهذه دائمًا حجة الجاهل الذي أختار أن يريح عقله ويلجأ دائمًا لمواريثه القبلية أو حكايات أجداده في تفسير الكون أو الوجود .. أما علماء الفيزياء فأختاروا السبيل العلمي لمعرفة أسرار الطبيعة ليملأوا فجوات جهلهم بالنظريات العلمية المتناسقة وليخضعوا هذه النظريات لكل سبل الدحض حتي تتشكل لهم الصورة الشاملة و الكاملة للطبيعة .

نعود لهذه الأسئلة الكونية ولنتسأل هل نجح العقل الإنساني في وضع إجابة لهذه الاسئلة .. الإجابة نعم .. في بداية الثمانينيات نجح العلماء ستاروبينسكي و أندريه لندي وآلان جوث بوضع نموذج التضخم الكوني والذي فيه يفترض العلماء وجود مجال من الجسيمات القياسية ( أي ليس لها مغزليه كمية ) وهذا المجال القياسي له معادلة حالة ذات ضغط سلبي مما يشكل قوة تنافر تعاكس و تتفوق علي قوة الجاذبية الضخمة في هذه المرحلة مما يمنع الكون الناشئ من الارتداد علي نفسه أي أن وظيفة هذا المجال القياسي هي إيجاد مرحلة قصيرة للغاية تتشكل فيها قوة تنافر للجاذبية تؤدي إلي حدوث تضخم كوني غير عادي ليبعد الأجزاء المادية عن بعضها البعض لفترة وجيزة تكفي للتغلب على قوة الجاذبية وتؤدي إلى نشأة الكون ونتيجة هذا التضخم الكبير يعاني هذا المجال القياسي من تحول طوري ليتحلل أو ليتحول هذا المجال القياسي بعد انتهاء مرحلة التضخم إلي الجسيمات الأولية التي تشكل كوننا.

ولكن لماذا حدث التضخم الكوني هذا .. ما الذي حدث .. يجيب أندريه لندي علي هذا السؤال بإن التضخم الكوني ما هو إلا عدم استقرار في تركيبة الزمكان كمثل شخص يقف علي قمة جبل و نتيجة عدم استقرار هذه القمة أو استقرار الشخص ذاته فإن احتمال وقوعه من قمة هذا الجبل تكون كبيرة و هناك عدد كبير من الاحتمالات لكيفية وقوع ذلك الشخص .. الشخص هنا هو الكون و الوقوع هو التضخم الكوني المفاجئ .

ولنشرح ذلك بمصطلحات علمية تعبر من كيفية ميلاد الكون في نموذج التضخم .

بافتراض وجود ذلك المجال القياسي .. والذي يمكنه أخذ قيم مختلفة معتمدة علي تغير المكان والزمان و من ثم يتشكل له طاقة وضع (Potential) مختلفة أيضًا معتمدة علي قيمته .. وبميل المجال الفيزيائي للاستقرار عند القيمة الصغرى لطاقة وضعه و لكن نتيجة إن هذا المجال له قيم عديدة فبالتالي طاقة وضع هذا المجال أيضًا لها نقاط صغري عديدة .

وهذه النقاط الصغرى تسمي حالة الفراغ وهي تعني أن المجال القياسي له أدني طاقة ومن هذا التعريف يتضح أن المجال القياسي له عدد حالات فراغ منها ما هو حالة فراغ خاطئة وواحدة فقط وهي ما تكون حالة فراغ صحيحة وعندها يمتلك المجال القياسي أقل طاقة ممكنة .

ولكن احتمالية وجود المجال القياسي في حالة الفراغ الخاطئة واردة بشدة أكبر لذلك وفقا لخصائص الكمية والتي تسمح للمجال بالقفز من حالة الفراغ الخاطئة إلي حالة الفراغ الصحيحة و حتي تكون احتمالية القفز هذه كبيرة فيجب أن تتم في قطاع ضئيل جداً في مكان وفي حجم ما يسمي بفقاعة كمية .

هذه العملية تحدث عند نقاط مختلفة في المكان لذلك يتولد لدينا عددًا لانهائيًا من هذه الفقاعات الكمية والتي فيها يستقر المجال وهي حالة الفراغ الصحيحة بالنسبة له مما يؤدي إلي نمو الفقاعات المختلفة نتيجة نموذج التضخم ولكن كل فقاعة في هذه الحالة لها قوانينها الخاصة عند الطاقات الصغرى الكلاسيكية لإن في هذه المرحلة يتشكل مسببات كتل الجسيمات الأولية و الثوابت الفيزيائية و التي تتشكل في كل فقاعة و يؤدي تضخم كل فقاعة إلي كون بنيته من جسيمات أولية و ثوابت فيزيائية تختلف عن بنية الأكوان الأخرى التي نشأت من فقاعات كمية أخري وتضخمت هي أيضًا .

هنا نحن لا نتكلم عن كون واحد حتمي بقوانين فيزيائية حتمية .. إنما نتكلم عن أكوان مختلفة نشأت في الأساس من التموجات الكمية اللانهائية والتي تضمن إن كل كون له قوانينه الفيزيائية الخاصة به و كوننا مجرد كون من عدد ضخم من هذه الأكوان .

وكذلك تفسر لنا تلك التموجات الكمية وجود المادة بشكل أساسي لأنها تمثل بذور الجسيمات الأولية والتي تشكل بذور تكون المجرات التي تملأ كوننا .. ربما يتساءل القارئ .. وهل التموجات الكمية تمت ملاحظتها تجريبيًا ؟ و الإجابة نعم.

تمت ملاحظتها من إشعاع الخلفية الكونية باستخدام المراصد الفضائية المتقدمة كمرصد بلانك ..نعود لنموذج التضخم الكوني وهل فعلًا أجتاز اختبارات تجريبية ؟ الإجابة نعم .

فلقد حسب العلماء نسبة تجانس و تماثل الكون وفقا لنظرية التضخم الكوني وجدوا الاتفاق كبيير مع القيمة التجريبية يصل للصفر الثالث بعد العلامة العشرية .

وكذلك تم حساب نسبة الاضطرابات وتم إيجاد أن توزيعها يخضع لتوزيع جاوس بما يتفق بشكل كبير مع القياسات التجريبية .. إذن هناك دعائم تجريبية قوية لنموذج التضخم الكوني والذي هو نتاج فرضية الأكوان المتعددة .

كذلك فسرت لنا نظرية التضخم الكوني و الأكوان المتعددة القيمة الصغرى للغاية لقيمة الثابت الكوني والتي تبلغ 10 مرفوعة لاس سالب 122 و هي قيمة ضئيلة تمامًا و لو كانت تغيرت قليلًا .. لكانت قوانين الكون الحالية مختلفة تماما عما نعده من قوانين و ربما أيضًا لم تكن لتؤدي لوجودنا من الأساس.

لذلك يبدو لنا نظرية التضخم الكوني و الأكوان المتعددة من أفضل الأطروحات لفهم قوانين الفيزياء و أصل الكون.

ليس هذا فحسب.. بل إن هناك نظريات مختلفة كنظرية الأوتار استنتجت بشكل متناسق رياضيًا ونظرية التضخم الكوني و الأكوان المتعددة من فرض أساسي و هو وجود الوتر الأساسي و أعطت التبرير و الأثبات الرياضي لكيفية نشأة الأكوان المتعددة .. إذن النظرية هنا تحظي بالاستدلالات التجريبية و التناسق والتبرير الرياضي المتماسك في نظرية الأوتار .

هنا تشكل نظرية الأكوان المتعددة حل للمعضلة الفلسفية التي تسمي المبدأ الأنثروبي أو المبدأ الإنساني والذي يفترض أن الكون حتمي حيث تكون معادلاته وقوانينه الطبيعية مناسبة بشكل منضبط تمام الانضباط لظهور الحياة الواعية ، حيث أنه لو اختلفت كتلة البروتون قليلًا عن كتلتها المعروفة بالنسبة للنيوترون مثلًا .

لأختلفت قوانين الفيزياء تمامًا و لكان من المستحيل نشأت الحياة الواعية علي الأرض بالشكل الذي نعهده حاليًا و بالتالي لم يكن ليوجد كائن حي مثل الإنسان ليرصد هذا الكون ويفسره .. ذلك الانضباط التام تم تفسيره من خلال نظرية التضخم الكوني و نظرية الأكوان المتعددة واللتان تنبثقان من نظرية الأوتار بشكل متناسق رياضيًا .

حيث الانضباط التام هنا ما هو إلا حالة واحدة من عدد ضخم من الأكوان يصل إلي 10 مرفوعة لاس 1000 من الأكوان الممكنة بقوانين فيزيائية مختلفة وكوننا مجرد حالة أو كون تشكلت فيه كتل الجسيمات المادية والثوابت الفيزيائية بالشكل الذي يسمح بتشكل الحياة الواعية علي الأرض .

ولكن الاحتمال قائم تمامًا بإمكانية وجود حياة واعية مشابهة في أكوان أخري أو أشكال من الوعي المختلف في أكوان أخري .. ونعود مرة ثانية للسؤال هل الإنسان مميز .. ويتضح لنا ما عرضناه أن الكون الخاص بنا ليس مميز في شيء ويوجد غيره من الأكوان الكثيرة .

من هنا يتبين لنا أن النظرية الأكثر صلابة في تفسير تطور الكون هي نظرية التضخم الكوني و الأكوان المتعددة و قد نجحت تجريبيًا في تفسير وإجابة اسئلة كنا نظنها مستحيلة في وقت من الأوقات .

لذلك عندما تم سؤال العالم أندريه لندي إذا كان هناك إمكانية لاختبار نظرية الأكوان المتعددة .. كان رده أن النظرية بالفعل قد اختبرت وفسرت قيمة الثابت الكوني الذي تم قياسه تجريبيًا بجانب شرحها وتفسيرها لتجانس الكون والعديد من الملاحظات التجريبية في آن واحد من خلال التضخم الكوني الذي هو ناتج في الأصل عن نظرية الأكوان المتعددة .

وبالتالي ليس هناك معني للعودة لمفهوم الكون الحتمي مرة ثانية إذا لم تكن قادراً علي حل كل هذه المعضلات الفيزيائية بحجر واحد كما فعلت نظرية الأكوان المتعددة والتضخم الكوني .

ولعلي استشعر الآن ثائرة القارئ الآن ليقول إنه من العبث وجود عدد لانهائي من هذه الأكوان .. أين المعني الحتمي هنا .. ما هدف الوجود .. وردي عليه ربما يكون هدف الوجود أن يحاول إدراك حقيقة وجوده ..و بالتالي ربما تكون أنت وسيلة الطبيعة للتعرف ولفهم ماهيتها .. فلا تستهن بقيمتك كملاحظ لهذا الوجود البديع .


اعداد: أحمد فراج علي
تدقيق: يحيى أحمد
مراجع :

1- A New Type of Isotropic Cosmological Models Without Singularity
Alexei A. Starobinsky (Cambridge U. & Landau Inst.). 1980. 4 pp.
Published in Phys.Lett. 91B (1980) 99-102

2- The Inflationary Universe: A Possible Solution to the Horizon and Flatness Problems
Alan H. Guth (SLAC). Jul 1980. 32 pp.
Published in Phys.Rev. D23 (1981) 347-356

3- A New Inflationary Universe Scenario: A Possible Solution of the Horizon, Flatness, Homogeneity, Isotropy and Primordial Monopole Problems
Andrei D. Linde (Lebedev Inst.). Oct 1981. 5 pp.
Published in Phys.Lett. 108B (1982) 389-393

4- De Sitter vacua in string theory
Shamit Kachru (Stanford U., Phys. Dept. & SLAC), Renata Kallosh, Andrei D. Linde (Stanford U., Phys. Dept.), Sandip P. Trivedi (Tata Inst.). Jan 2003. 11 pp.
Published in Phys.Rev. D68 (2003) 046005

5- Anthropic Bound on the Cosmological Constant
Steven Weinberg (Texas U.). Oct 27, 1987. 16 pp.
Published in Phys.Rev.Lett. 59 (1987) 2607

6- A brief history of the multiverse
Andrei Linde (Stanford U., ITP & Stanford U., Phys. Dept.). Dec 3, 2015. 13 pp.
e-Print: arXiv:1512.01203 [hep-th]

7- Quantum Fluctuations in Cosmology and How They Lead to a Multiverse
Alan H. Guth (MIT, Cambridge, CTP & MIT, LNS). Dec 27, 2013. 23 pp.
MIT-CTP-4489
Conference: C11-10-19.1 Proceedings
e-Print: arXiv:1312.7340 [hep-th]