النسويّة هي الاعتقاد بالمساواة الاجتماعيّة والاقتصاديّة والسياسيَّة بين الجنسين، وعلى الرّغم من نشأتها الأساسيّة في الغرب، إلا أنّها تتجلى حول العالم وتمثلها مؤسساتٌ مختلفةٌ ناشطةٌ في حقوقِ المرأة ومصالحها.

على مرِّ تاريخ الغرب، قُيّدت النساء بالإطار المنزليّ، بينما احتفظ الرجال بالحياة العامّة لأنفسهم فقط، وفي القرون الوسطى في أوروبا، حُرِمت النساءُ من حقِّهنّ في التَّملُّك، والدراسة، والمشاركة في الحياة العامة.

وفي نهاية القرن التاسع عشر في فرنسا، كُنّ مجبراتٍ على تغطية رؤوسهنّ في العلن، وفي بعض أجزاء ألمانيا كان يحقُّ للرجل بيعَ زوجته، وحتى وقتٍ غير بعيدٍ؛ كبدايات القرن العشرين، لم يحقّ للنساء التّصويت في أوروبا ومعظم الولايات المتحدة الأمريكية.

لقدي مُنِعت النساء من القيام بأعمالٍ دون وجودِ وكيلٍ ذكرٍ، سواءَ كان الأب أو الأخ أو الزوج أو ممثِّل قانونيّ أو حتى الابن، كما لم يحقّ لهُنَّ ممارسة سيطرتهنّ على أطفالهنّ دون موافقة الأزواج.

بالإضافة لما سبق، لم تمتلك النساء الحرّيّة بالحصول على التعليم، أو حظِيت بالقليل منها فقط، وحُرِّمت عليهنّ معظم الوظائف، وفي بعض أجزاء العالم لا تزال هكذا تقييدات مفروضةً على النساء.

تاريخُ النَّسويّة:

العالَمُ القديم:

تعودُ بعضُ الأدلّة بالزمن إلى القرن الثالث قبل الميلاد حين انتفضت النّساء الرومانيّات على ممانعة القنصل ماركوس بورشيوس كاتو لمحاولاتِ إزالةِ القوانين التي حدَّت من تصرف النساء بالبضائع الثَّمينة، مُحتجًّا أنّهنّ إذا بدأن بالتّساوي مع الرجال، يَكنّ قد تفوّقن عليهم.

في أواخرِ القرن الرابع عشر وبدايات القرن الخامس عشر في فرنسا، تحدّت الفيلسوفة النّسويّة الأولى، كريستين دي بيسان (Christine de Pisan) السلوكيّات السائدة ضد النساء بدعوةٍ جريئةٍ لتعليمهنّ.

حملت رايتها بعد ذلك لورا سيريتا الفينيسية (Laura Cereta) فنشَرَت مُجلَّدًا يتضمّن مجموعةً متكاملةً من شكاوى النساء، انطلاقًا من الحرمان من التعليم، إلى الاضطهاد الزوجيّ وسخافة الملابس الفاخرة، وأسمته (رسائل خاصة).

وبينما صوّرَ المتحفِّظون على الوضع الرّاهن النساء على أنّهنّ سطحيّات ولا أخلاقيّات بالوراثة، قدّمت مؤيِّداتُ النسوية قائمةً مطوّلةً من النّساء المفعمات بالجرأة والإنجاز، وأثبتنَ أنَّهنّ سيتساوَينَ فكريًّا مع الرجال إن تمتّعنَ بذات الحرية للحصول على التعليم.

وقد وصل ما سُمّيَ (النقاش حول المرأة) إلى إنجلترا في نهايات القرن السادس عشر، عندما انضمَّ مؤلِّفو وموزِّعو المناشيرِ والمجادلون للمعركة حول الطبيعة الحقيقيّة للأنوثة، وبعد سلسلةٍ من المناشير السّاخرة، نَشرَت أوّل ناشطة نسوية إنجليزيّة دفاعها عن النساء تحت اسم جين آنجر (Jane Anger).

واستمرّ تراشقُ الآراء لأكثر من قرن، حتى نَشرت ماري أستيل (Mary Astell) ردًّا أكثر منطقيّة بمجلّدين اقترحت فيهما أنّ على النساء اللاتي لا يجدنَ ميلًا للزواج ولا للتصوّف الدينيّ، أن ينشئنَ أديِرةً مدنيّةً حيث بإمكانهنّ العيش والدراسة والتعليم.

تأثيرُ حركةِ التّنويرِ الفكريّة (Enlightenment):

لم تندمج الأصوات النّسويّة في عصر النّهضة بأيّة فلسفةٍ أو حركةٍ متماسكةٍ، وإنَّما حدثَ ذلك في عصرِ التَّنوير عندما بدأتِ النّساء بالمطالبةِ بتطبيقِ البيانِ الإصلاحيّ الجديد الذي يخصُّ الحُرّيّة والمساواة والحقوق الطبيعيّة على كلا الجنسين سواء.

بدايةً؛ ركَّز فلاسفةُ عصرِ التَّنوير على عدمِ عدالةِ نظام الطّبقات الاجتماعيّة أكثر من الاستقصاء الجنسيّ، فمثلًا ادّعى الفيلسوف الفرنسي السويسري جان جاك روسّو (Jean-Jacques Rousseau) أنّ النساءَ كائناتٌ سخيفةٌ وُجِدت لتتبعَ الرّجال.

كما أنّ إعلان حقوق الفرد (الرَّجُل) والمواطِن (Declaration of the Rights of Man and of the Citizen) الذي حدَّد المواطَنة الفرنسيّة بعد ثورةِ عام 1978، فشلَ بوضوحٍ في عنونةِ الأوضاع القانونيّة للنّساء.

وسارعتِ المفكِّرات الإناث في عصرِ التّنوير بالإشارة إلى هذا الإقصاء والمنظور المحدود للبيانِ الإصلاحيّ، فنَشرَت المؤلِّفة المسرحيّة أولامب دي جوج (Olympe de Gouge) إعلانَ حقوقِ المرأة والمواطِنة (Declaration of the Rights of Woman and of the [Female] Citizen) في عام 1791.

وفي السّنة التالية نَشرَت ماري وولستونكرافت (Mary Wollstonecraft) كتابَ دفاعٍ عن حقوق المرأة (A Vindication of the Rights of Woman)، وكتبت فيه أنَّ المرأة لا تولَدُ لإسعاد الرَّجل فقط، وهي عقلانيّة بشكلٍ طبيعيٍّ مثله، فإن كانت النساءُ سخيفاتٍ، فذلك لأنّ المجتمع يقصيهنَّ عن المشاركة بشؤونه.

وفي فترة انطلاق حركة التّحرير من العبوديّة في الولايات المتحدة، بدأ النشاطُ النّسوي عندما سعت مُناصِرات حركةِ تحريرِ العبوديّة لتطبيق مفاهيمَ الحريَّة والمساواة على أوضاعهنَّ الاجتماعيّة والسياسيّة الخاصّة، وبحلول منتصف القرن التاسع عشر شاركت القضايا المتعلقة بالنّسويّة في جلبة التغيُّر الاجتماعيّ، مع تبادل الأفكار المتعلِّقة بها عبر أوروبا وأمريكا الشمالية.

كانت الألمانيّة لويز أوتو (Louise Otto) أوّل ناشطة نسويّة تجرَّأت على النّشر باسمها الحقيقيّ، وقد اعتمدت على أعمالِ تشارلز فورييه (Charles Fourier) – وهو باحثٌ فرنسيٌّ في النظريّاتِ الاجتماعيّةِ – فاقتبست عنه مقولة: «بواسطة مكانة النّساء في مكانٍ ما، بإمكانك تحديد ما إن كان هواء المنطقةِ مشبعًا بضبابٍ قذِر، أم صافيًا وعليلًا».

وانتشرت بعد ذلك في باريس جريدةٌ يوميّةٌ باسم (صوت النساء)، فاقتدت الكاتبة الألمانيّة لويز ديتمار (Luise Dittmar) بذلك وبدأت بنشر دوريّتها الخاصّة في عام 1848، وأسمتها (Soziale Reform).

حركةُ حقِّ الاقتراع:

بلغ النّقاشُ والجدالُ أوجُهًا في المؤتمرِ الأوّل لحقوق النّساء، والذي عُقِد في تموز/يوليو عام 1848 في بلدة (Seneca Falls) في نيويورك، بتنظيمٍ من قبلِ عدَّة ناشطاتٍ نسويّاتٍ مثل لوكريشا موت (Lucretia Mott)، وإليزابيث كادي ستانتون (Elizabeth Cady Stanton).

وللمناداة بالمساواة، اقتبست ستانتون من إعلانِ الاستقلال العبارةَ القائلة: «لقد خُلِق الرِّجالُ والنِّساءُ جميعًا متساوين»، وطالبت بـ11 تسوِية من بينها المطالبة الجذرِيّة بحق التّصويت، وبمساعدةٍ من فريدريك دوغلاس (Frederick Douglass)؛ العبدُ السابقُ الذي جادلَ بالنّيابة عن أولئك النّسوة، تَمّت الموافقة على جميعِ المطالب.

ولكن ومع التّأكيد على الحقوقِ التعليميّة والسياسيّة، والتي كانت من ميّزات الطبقات العُليا حصرًا، لم تُبدِ الحركيّة النسوّية البدئيّة تواصُلًا جيّدًا مع النساء العاديّات اللاتي ينظّفنَ المنازل أو يجمعنَ القطن.

فكانت المرأةُ الوحيدةُ ذات البشرة غير البيضاء التي تكلّمت حينئذٍ، هي سوجورنيه تروث (Sojourner Truth)، إذ ألقت خطابًا شهيرًا عام 1851 بعنوان (ألستُ امرأة؟) قبل مؤتمرِ حقوقِ المرأة، وكان فحواهُ التنديد بالطبقيّة والعبوديّة أكثر من كونه مطالبة بحقوق المرأة، وهو ما يدلّ أيضًا على مسافة الاختلاف بين النُّخبة والنّساء العاديّات.

وعلى الرّغمِ من انعقاد مؤتمراتٍ لحقوقِ المرأة في ولاياتٍ أخرى فيما بعد، إلا أنّ شرارةَ اللّحظاتِ الأولى للتّنظيم سرعان ما تلاشت، بتحوُّلِ الاهتمام للحرب الأهليّة في الولايات المتحدة، وعندما عادت الحركة النسويّة من جديد، تركّزَ اهتمامها طوال 70 سنة تقريبًا على قضيّةٍ واحدةٍ، وهي حقُّ الاقتراع.

افترضت الأمريكيّات المؤيّدات للنّسويّة أنّ التّعديل الخامس عشر للدستور الأمريكي بعد الحربِ الأهليّة سيتضمّن هذا الحق للنّساء، بما أنّه مَنع الحرمان من حقّ الانتخاب بناءً على العرق، ولكنّ قياديّي حركةِ تحريرِ العبوديّة رفضوا ذلك، ما دفع ستانتون إلى جانب سوزان ب. أنثوني (Susan B. Anthony) لتشكيلِ الجمعيّة الوطنيّة لحق المرأة بالاقتراع عام 1869.

وبحلولِ عام 1900، خمدَ الشّغفُ الأمريكي بمبادئ كتلك التي تنادي بالمساواة، بسبب فيضِ الهجرةِ من أوروبا الشرقيّة وتنامي العشوائيّات المدنيّة، وقد انعكس ذلك في تغيُّر سلوك المناشِدات بحق الاقتراع للمرأة، فقد أخذن ينادينَ بهذا الحق بناءً على قواعدَ عرقيّة وعدائيّة للمهاجرين، بدلًا من العدالة بين المرأة والرجل.

فأعلنت كاري شابمان كات (Carrie Chapman Catt) عام 1894 أنّ أصواتَ النساءِ المتعلِّمات من الطبقة الوسطى والمولودات في أمريكا تعادلُ أصوات الأجانب، أي طالبت بالاستعاضة عن أصوات الأجانب بأصوات أولئك النساء.

وقد أدّى هذا الميل النّخبويّ إلى توسُّع الشّرخ بين منظِّمات حركة النّسويّة وجموع النساء الأمريكيّات اللاتي عشنَ في العشوائيّات أو تكلَّمن بلهجاتٍ أجنبيّة، فتحوّلت تلك النساء من دعم الحركة النسويّة إلى الأمور التي تخصُّ حياتهنَّ اليوميّة أكثر، مثل حركة اتّحاد التجارة.

تحدّت مؤيّداتُ الحركة النّسوية المتأصّلات التّركيز المقتصِر على حقّ الاقتراع كأنّه الضرورة الوحيدة لحرّيّة المرأة، فسخرت إيما غولدمان (Emma Goldman) من فكرة أنّ ورقةَ التّصويت قد تضمنُ العدالة للمرأة، فأكّدت شارلوت بيركينز (Charlotte Perkins) أنّ العدالة لن تتحقق إلّا عند تحرُّرِ المرأة من الخرافة المنزليّة المتعلّقة بالبيت والعائلة، والتي أبقت النّساءَ معتمداتٍ على الرّجال.

وعلى غرارِ الأمريكيّات، بدأت المؤيِّدات البريطانيّات لحقِّ اقتراع المرأة مقاربتهنّ بلطفٍ وإقناعٍ مهذّب، ولكن في عام 1903 بدأت عصابةٌ قادتها إيميلين بانكرست (Emmeline Pankhurst) سلسلةً من الاعتصامات والإضرابات والتفجيرات، فحفّزت أساليبها الأمة، وفي عام 1918 قام البرلمان البريطانيّ بتمديدِ حقِّ الاقتراع ليشملَ صاحبات البيوت، وزوجات أصحاب البيوت، وخرّيجات الجامعات اللاتي يزيد عمرهنّ عن 30 عامًا.

انتقلت الأساليبُ الجديدةُ للأمريكيات، وأهمهنّ أليس بول (Alice Paul)، فأخذنَ بالاحتجاج والاستعراض ومواجهة الشرطة، حتى نِلنَ انتصارهنّ الكبير الأوّل عام 1920 بإجراء التّعديل التاسع عشر على دستور الولايات المتحدة الأمريكيّة.

ولكن بعدَ تحقيقِ الهدفِ الأساسيّ بحق الاقتراع، انهارت الحركة النّسوية افتراضيًّا في كلّ من أوروبا والولايات المتحدة الأمريكيّة، وتجزَّأت إلى عشراتِ المجموعات التي قدمت بعض المساهمات المدنيّة، ولكن لم يكن أي منها (نسويًّا) في طبيعته.

لم تكن العديد من مؤيّدات النّسويّة يستهدفنَ المساواة الجدّيّة، فكُنّ يحاربنَ من أجلِ قوانينَ قد تفيدُ النساءَ بشكلٍ مباشر، إلّا أنّ الحزبَ الوطنيَّ للنساء بقيادة أليس بول اقترح مبادرةً جديدةً عنَت بإزالة التّمييز من القوانين الأمريكية وتقريب وصول النساء للمساواة، من خلال تعديل الحقوق المتساوية (Equal Rights Amendment).

كما جادلت بول بأنّ التّشريعات الحاميَة –مثل تلك التي تفرض بألّا تتجاوز مناوَبات عاملات المصنع ثمانِ ساعات– قد أوصدت في الحقيقة أبوابَ الفرصِ أمامَ النّساء، لأنها تقيِّد أصحابَ المصانع بشروطٍ مكلّفةٍ فيميلون بالمحصِّلة إلى توظيف الرجال أكثر من النساء.

ومن هنا تصاعدت الأسئلةُ حول إمكانيّة تحرُّر النساء من التمييز دون تأذّي وسائل حمايتهنّ ورفاهيّتهنّ، وما إن كانت أهدافُ الحركةِ النّسويّة هي استحصال المساواة الكاملة، أم الاستجابة لمتطلّبات النساء، وما هي غالبيّة النّساء اللاتي سيردنَ المساواة لو كان ثمنُها غيابَ الحماية.

بعد ذلك غرقَ العالم بأسرِه في الكساد الاقتصاديّ، ومن ثمّ طمست الحربُ العالميّةُ الثّانيةُ النّشاطَ النّسويّ بشكلٍ كبيرٍ، وعلى الرّغم من إتاحتها بعض فرص التّوظيف للنساء – من العمل في المصانع إلى امتهان البيسبول – ولكن سرعان ما تلاشت تلك الفرص بانتهاء الحرب عندما سُرِّح الرجال من الخدمة العسكرية.
أغضب هذا الانقلاب في الأحداث العديدَ من النساء، ولكن لم يكُن إلا القليل منهنّ على استعدادٍ لأيّ تظاهر منظَّم، وفي الولايات المتحدة الأمريكية سادت ثقافةٌ منزليةٌ جديدةٌ، فأخذت النساء بالتَّزوُّج بعمرٍ أصغر وإنجابِ المزيدِ من الأطفال بالمقارنة مع العشرينيّات من القرن العشرين، وبحلول عام 1960 تناقصت نسب النساء الموظّفات كثيرًا بالمقارنة عما كانت عليه في عام 1930.

الموجةُ الثانيةُ من الحركةِ النّسوية:

امتدّت الموجةُ الثانيةُ من الحركة النّسوية في ستينيّات وسبعينيّات القرن العشرين، وكانت مستوحاة من حركة الحقوق المدنيّة والاهتياج الثّوريّ الناجم عن التظاهر ضد حرب الفييتنام، وكدعمٍ لها أقام الرئيسُ الأمريكيُّ جون إف كينيدي المُفوَّضة الرِّئاسيّة لشؤونِ المرأة، وكُلّف إلينور روزفيلت (Eleanor Roosevelt) بالقيادة، فأصلحوا الكثيرَ من الأمورِ على مستوى الضّمانات التشريعيّة للأجر المتساوي مقابل العمل المتساوي، وفرص العمل المتساوية، وتنمية خدمات رعاية الأطفال.

ولكنّ البعض اعتبر تلك الإجراءات قاصرةً في بلدٍ لا تزالُ إعلاناتُ التوظيفِ فيها تفصلُ الشواغرَ حسب الجنس، والقوانين المحلّية تحدُّ من حصول النساء على وسائلَ منع الحمل، وحوادثُ الاغتصابِ والعنفِ المنزليّ غير مخاطَبةٍ وبعيدة عن العيان.

لكن تمّ تدارك الأمر قليلًا فيما بعد، فأُنشِئت الوحداتُ الصّحّيّة ومراكزُ أزماتِ الاغتصاب، وأُعيدت كتابةُ كتب الأطفال للحدِّ من القولَبة الجنسيّة، وأُسقِطَت قوانينُ العملِ الحامية، وأُجبر أصحابُ العمل الذين مارسوا التمييز ضد العاملات الإناث بالتّعويض المادّي، فبدأت النساء تتوظّفن كطيَّاراتٍ وعاملاتِ إنشاءٍ وجنديّاتٍ ومصرفيَّاتٍ وسائقاتٍ للباصات.

وعلى عكس الموجة الأولى، حَرَّضت الموجةُ النسويَّةُ الثانية نقاشاتٍ نظريّةٍ شديدةٍ حول أصل اضطهاد المرأة وطبيعة الجنس ودور العائلة، ونَشرت العديدُ من النساء عن ذلك، مثل كيت ميليت (Kate Millet)، وشولاميث فايرستون (Shulamith Firestone)، وجيرامين جرير (Geramine Greer).

وعلى الرُّغم من الاتّفاق على الأسئلة التي ينبغي طرحها كالمذكورة آنفًا، إلا أنّ الأجوبةَ كانت متباينة للغاية، وبالتالي فشلت كلّ المحاولات لإنشاء إيديولوجية نسويّة متماسكة وشاملة تمامًا، ومع تنافس التيّارات والإيديولوجيات، ظهرت بالمحصلة ثلاثةٌ منها، فنادى التيّار الفكريّ الأوّل بالنسوية الليبرالية التحرُّرّية، وهَدَف إلى دمج المرأة بالسُّلطة بشكلٍ أكبر وإتاحةِ فرصٍ متساويةٍ لها للوصول إلى مناصبَ لطالما سيطر عليها الرجال.

ولكن أيّد هذا التّيار أيضًا المكافئ العصريّ للتشريعاتِ الحامية، كميّزات مكان العمل الخاصّة بالأمّهات، وعلى عكس المقاربة البراغماتية الواقعيّة التي أخذتها النّسوية الليبرالية، هدفتِ النّسوية التأصُّلية لإعادةِ تشكيلِ المجتمع ومؤسّساته، فاعتقدت أنّ خضوعَ المرأة كان محبوكًا ضمن نسيج المجتمع ومن الصّعب حلّه دون إعادةِ تنظيمِ ثورة للمجتمع بأكمله.

بينما رفض تيّار النّسوية الثقافيّة فكرةَ أنّ الرجل يتشابه مع المرأة جوهريًّا، وأيَّد الميّزات التي تملكها المرأة، كحرصها الأكبر على العلاقات العاطفيّة وانهماكها برعاية الآخرين، وانتقد توجُّه النّسويّة الليبراليّة لمحاولتها دخول النطاق التقليديّ للرجل، والذي برأيه يشوّه ميولَ المرأة الطبيعية ويجعلها تتشبّه بالرجل.

العاملُ العرقيّ:

مثل الموجة النسويّة الأولى، تحددت الثانية كثيرًا حسب النساء المثقّفات ذوات البشرة البيضاء والطبقة المتوسطة، واللاتي بنينَ الحركة بشكلٍ أساسيٍّ حسب شؤونهنَّ الخاصّة، ما أثار نزاعًا مع النساء من الأعراقِ والطبقاتِ الأخرى.

فعلى سبيل المثال وجدت الكثيرُ من النساء ذوات البشرة البيضاء صعوبةً في اعتبارِ النساء السوداوات أخواتٍ لهنّ في النسويّة، فقد اعتبرنَهُنّ مضطهِداتٍ حالهنّ كحال الرجال البيض، وغير قادراتٍ على تَفهُّم شؤون النساء داكنات البشرة.

فوجدت تلك النساءُ أنفسهنّ مجبراتٍ على مواجهةِ التبادلِ بين التمييزِ العنصريّ والجنسيّ، وإيجاد طريقة لجعل الرّجال السود يأخذون القضايا الجنسيّة بعين الاعتبار، وإثارة القضايا العرقيّة لدى النساء البيضاوات، وخاطبتِ العديدُ من الناشطات داكنات البشرة هذه المشاكل، مثل بيل هوكس (Bell Hooks) وأليس ووكر (Alice Walker).

لكن أصرّت بعضُ النساء داكنات البشرة وخصوصًا من الطبقة المتوسّطة، على تقاطعِ العديدِ من المطالب المركزيّة بين النساء جميعهنّ من كل الأعراق، فمراكزُ الرعاية بالأطفال وحق الإجهاض وإجازة الأمومة والعنف جميعها أمور مهمّة تعني النّساء داكناتِ البشرة أيضًا، ما أثمر بعلاقةٍ عمليّةٍ فعّالة بين النساء من العرقين.

انتشارُ الحركةِ النّسويّةِ عالميًّا:

بحلولِ نهاية القرن العشرين، كانت الحركةُ النّسويّة في كلٍّ من أوروبا وأمريكا قد بدأت بالتفاعل مع الحركات الوليدة في آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية وانصدمت النساء في الدول المتطوّرة، وخصوصًا المثقفات منهنّ، بإلزام الأُخريات في بعض الدول بارتداء النّقاب في العلن أو الخضوع لزواجٍ مفروضٍ أو وأد الرّضَّع الإناث أو حرق الأرامل أو الختان.

واعتَبَرت عدّةٌ من نساءِ الغرب أنفسهنّ حينئذٍ منقذاتٍ لنساء العالم الثالث، غير مدركاتٍ ابتعاد آرائهنّ وحلولهنّ عن الحياة الحقيقيّة للنساء في تلك المناطق وشؤونهنّ، فعلى سبيل المثال، كانت قد بدأت أوضاعُ النساءِ في الكثير من مناطق أفريقيا بالتّدهور فعليًّا بالتزامن مع وصول الاستعمار الأوروبيّ، وبالتالي لم تكنِ المعضلةُ الأساسيّةُ للنساء هناك هي السيادة الذكوريّة حينئذٍ، وإنّما ذاك الاستعمار.

وتجلّت الخلافاتُ بين النساء في الدول المتطوِّرة والنّامية بوضوحٍ في المؤتمرات الدوليّة، فبعد المؤتمرِ الدوليّ للعقد الذي خصَّصته الأممُ المتّحدة للنساء والمتضمّن للمساواة والتّنمية والسلام، والمُبرَم عام 1980 في كوبنهاغن، اشتكت النساءُ المنتميات لدولٍ ناميةٍ من تَمحوُرِ المؤتمرِ حول النقاب والختان دون استشارة النساء اللاتي تتعلق بهنّ هكذا شؤون، فكأنّ نظيراتهنَّ في الغرب لم يكنَّ يستمعنَ إليهنّ.

وبنفس الطريقة، تظاهرت نساءٌ من العالم الثالث أثناء انعقاد المؤتمر الدوليّ للسكان والتنمية في القاهرة عام 1994، احتجاجًا على تركيزِ منظميه على منعِ الحمل والإجهاض لإنقاص التّعداد السكانيّ في دول العالم الثالث وحفظِ موارد الأرض، رغم أنّ دولَ العالم الأول هي المُستهلِك الرئيسيّ لتلك الموارد.

عوضًا عما توقّعنَه من مخاطبة الطرائق التي يعيقُ بها التخلّف النساء في تلك الدول، فاتّهمنَ الأوروبيين والأمريكيين باختطافِ برنامج العمل، وأشرنَ إلى أنهنّ غير قادراتٍ على القلق حول شؤونهنّ عندما يموت أطفالهنّ من الجوع أو العطش أو الحرب.

بشكلٍ عام، أثّرت الحركة النسويّة في جميع مجريات الحياة المعاصِرة والتّواصل والنقاش حول المواضيع المختلفة، ولكن يبقى السؤال: كيف ستتعاملُ النسويّةُ الغربيّة مع شقاق النساء اللاتي يعتقدنَ بتمادي الحركة وتزايد تأصُّلها؟

وإلى أيّ حدٍّ قد تكون النسويةُ موحّدةً وناجحةً على نطاقٍ عالميٍّ؟

أيمكنُ مخاطبة الصعوبات التي تواجه النساء في جبال الباكستان أو صحارى الشرق الأوسط على انفراد، أم ينبغي ملاحقتها من خلال الاجتماعات العالميّة؟


  • ترجمة: سارة وقاف
  • تدقيق: ماجدة زيدان
  • تحرير: يمام اليوسف
  • المصدر