استخدم الفيزيائي جون ويلر John Wheeler عبارة “تنين عظيم من الدخان” لوصف فوتون من الضوء يخرج من منبع ضوئي إلى عداد فوتونات.

فم التنين الحاد هو مكان اصطدام الفوتون بالعداد، ذيل التنين الحاد هو مكان خروج الفوتون.

وبكلمات أخرى الفوتون واقع محدد في البداية والنهاية، ولكن في المنتصف يكون (جسم التنين) ضبابيًا.

يقول ويلر: «إن معرفة كيف يبدو التنين، وماذا يفعل، غير ممكنة».

ويلر كان من متبني “ضد الواقعية (anti-realism)”، موقف فلسفي قائم على فكرة أن الظواهر الكمومية لا تكون حقيقيةً إلى أن يتم رصدها.

حتى أنه صمم تجربةً تبين أنه إذا كانت فكرة الواقعية (realism)، موقف يتبنى فكرةً أكثر كلاسيكيةً عن العالم، ويكون للكائنات الكمومية، كالفوتونات، فيها خصائص ذاتية محددة)، صحيحةً؛ فيجب التسليم بأن المستقبل يؤثر في الماضي.

وبما أن العودة بالزمن مخالفة للمنطق، فقد أصبحت تجربة ويلر حجة تدعم (ضد الواقعية (anti-realism)) على المستوى الكمومي.

ولكن في شهر أيار من هذا العام عثر رافاييل تشافيز (Rafael Chaves) وزملائه في المعهد الدولي للفيزياء (International Institute of Physics) في مدينة ناتال في البرازيل على ثغرة.

حيث أظهروا أنه وبعد القيام بافتراضات معينة يمكن تفسير تجربة ويلر باستخدام نموذج كلاسيكي ينسب للفوتون طبيعةً حقيقيةً، أي أنهم أعطوا التنين جسدًا محددًا.

ثم اقترح فريق تشافيز تعديلًا على تجربة ويلر لاختبار الثغرة.

وبحماسة غير مسبوقة تنافست ثلاثة فرق للقيام بالتجربة المعدلة.

أظهرت نتائجهم أن صفًا من النماذج الكلاسيكية التي تدعم النظرة الواقعية (realism) لا يمكنها تفسير النتائج.

الفيزياء الكمومية قد تكون غريبةً ولكنها تبقى التفسير الأبسط لدينا.

فخ التنين

صمم ويلر تجربته عام 1938 ليلقي الضوء على أحد أكبر الألغاز المفاهيمية في الفيزياء الكمومية، ازدواجية الجسيم والموجة، أي أن الكائنات الكمومية تسلك سلوك أمواج وجسيمات ولكن لا تظهر هاتان الطبيعتان معًا.

يقول الفيزيائي والعالم بتاريخ العلوم من معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا (MIT) ديفيد كايزر David Kaiser: «كان على الفيزيائيين أن يتقبلوا فكرة أن ازدواجية الجسيم والموجة هي صفة غريبة للنظرية الكمومية لأكثر من قرن».

ويضيف أن هذه الفكرة تسبق صفات غريبة أخرى للنظرية الكمومية كمبدأ الشك لهاينزبيرغ.

تؤكد حالة خاصة من تجربة الشقين الشهيرة، تدعى مقياس تداخل ماخ و زيندر (Mach-Zehnder interferometer)، هذه الظاهرة.

في هذه التجربة، يتم إطلاق فوتون واحد نحو مجزئ حزمة ضوئية (مرآة نصف فضية)، ومنه يمكن أن ينعكس الفوتون أو يمرر باحتمال متساوٍ، ومنه يمكن أن يأخذ أحد مسارين.

في هذه الحالة يمكن أن يأخذ إما الطريق 1 أو الطريق2 ومن ثم يصدم الكاشف D1 أو الكاشف D2 باحتمال متساوٍ.

وبالتالي يبدو أن الفوتون يتصرف كجسيم.

ولكن يمكننا أن نقوم بتعديل هذه التجربة بإضافة مجزئ حزمة آخر في مكان التقاء الطريق 1 مع الطريق 2.

في هذه الحالة، يقوم الفوتون بسلوك الطريقين معًا كما تفعل الموجة.

تلتقي الموجتان معًا عند مجزئ الحزمة الثاني (انظر إلى الشكل).

يمكن ضبط التجربة بحيث تتداخل الموجتان معًا تداخلًا بناءً (قمة مع قمة وقاع مع قاع)، فقط عندما تتحركان نحو D1.

أما المسار نحو D2 يمثل التداخل الهدام، وهكذا فإن الفوتون سيوجد دومًا عند D1 ولا يمكن أن يوجد عند D2، وبالتالي يبدو أن الفوتون يتصرف كموجة.

عبقرية ويلر تكمن في سؤال: «ماذا لو أخرنا وضع مجزئ الحزمة الثاني؟»، على فرض أن الفوتون يدخل مقياس التداخل من دون وجود مجزئ الحزمة الثاني.

ومنه فيجيب أن يتصرف الفوتون كجسيم.

ولكن يمكننا أن نضيف مجزئ الحزمة الثاني بعد أجزاء من رتبة النانو ثانية من خروج الفوتون.

فعندها يتصرف الفوتون، الذي يفترض أنه يتصرف كجسيم وسيذهب إما إلى D1 أو إلى D2، كموجة ويذهب فقط إلى D1.

ولكي يفعل هذا فيجب عليه أن يسلك بنفس الوقت الطريقين معًا، وليس أحدهما دون الآخر.

ومن وجهة نظر كلاسيكية يبدو كأن الفوتون عاد بالزمن وغير سلوكه من جسيم إلى موجة.

إحدى طرق تفادي هذا التفسير هي التسليم بأن الفوتون يصبح حقيقيًا فقط عندما يتم رصده.

تلقت فكرة “عدم الواقعية (anti-realism)” هذه، والتي غالبًا ما ترتبط بتفسير كوبنهاغن للميكانيك الكمومي، ضربةً نظريةً بسبب عمل تشافيز، على الأقل في سياق هذه التجربة.

فريق تشافيز أراد تفسير بعض مفاهيم الميكانيك الكمومي المغايرة للفطرة عن طريق مجموعة جديدة من الأفكار تدعى النموذج السببي (Causal Model)، والذي ازدادت شعبيته كثيرًا في العقد الأخير.

النموذج السببي يقوم على ربط علاقات سبب ونتيجة بين العناصر العديدة للتجربة.

عند دراسة الحوادث المرتبطة (مثلًا الحدثين A و B) إذا لم يكن بالإمكان القول أن A سبب B أو أن B سبب A فإنه يوجد احتمالية أن حدث ثالث C سببهما كلاهما.

في مثل هذه الحالات يكون النموذج السببي مفيدًا في معرفة C.

ركز تشافيز وزملاؤه على تجربة ويلر متوقعين أن يفشلوا بالعثور على نموذج فيه عمليات مخفية (hidden process) يمكنه أن يمنح الفوتون حقيقةً ذاتيةً وأيضًا أن يفسر سلوكه من دون اللجوء إلى العودة بالزمن.

ظنوا أنه يمكنهم الإثبات أن تجربة ويلر هي: «مخالفة للفكر بشكل خارق، أي أنه لا يوجد نموذج سببي قادر على تفسيرها».

ولكنهم قوبلوا بصدمة.

إذ بدأوا بافتراض أن الفوتون بعد عبوره لمجزئ الحزمة الأول، يملك على الفور حالةً ذاتيةً معطاة ب “متغير مخفي”، والذي هو في هذا السياق شيء يؤثر في سلوك الفوتون بطريقة ما ولكنه غير موجود في النموذج الكمومي المعياري، ثم يقوم المجرب إما بإضافة المجزئ الثاني أو عدم إضافته.

النموذج السببي الذي يمنع السفر عبر الزمن للوراء يضمن عدم تأثير اختيار المجرب على ماضي الحالة الذاتية للفوتون.

باستخدام المتغير المخفي، الذي يؤكد الواقعية (realism)، أظهر الفريق أنه من الممكن كتابة قواعد تستخدم قيمة المتغير ووجود أو عدم وجود المجزئ الثاني لق

يادة الفوتون نحو D1 أو D2. بطريقة تحاكي توقعات الميكانيك الكمومي. أي أن هذا التفسير كلاسيكي، سببي، وواقعي.يقول تيم بيرنيز (Tim Byrnes)، فيزيائي من جامعة نيويورك (NYU): «هذا فاجأ العديد من الفيزيائيين»، ويضيف: «الذي لم يقدره الناس كثيرًا؛ أن هذا النوع من التجارب يفسر بطريقة كلاسيكية تحاكي تمامًا النتائج التجريبية».

يقول تشافيز: «هذه كانت الخطوة صفر».

الخطوة الثانية كانت معرف كيفية تعديل تجربة ويلر بطريقة يمكنها التمييز بين النموذج الكلاسيكي والفيزياء الكمومية.

في تجربتهم المعدلة تم تعديل كامل مقياس تداخل ماش و زيندر.

إذ أصبح مجزئ الحزمة الثاني موجودًا دائمًا.

كما أن إزاحتين في الطور أصبحتا تلعبان المتغيرات التجريبية التي يمكن للباحثين التحكم فيها بدقة.

محصلة التغير الذي تحدثه الإزاحتان تؤثر في طول كل من المسارين.

وهذا يغير نمط التداخل، ومعه، السلوك المفترض للفوتون “كموجة” أو “كجسيم”.

على سبيل المثال، يمكن أن تكون قيمة الإزاحة الأولى بحيث يسلك الفوتون سلوك جسيم داخل مقياس التداخل، ولكن يمكن أن تدفعه الإزاحة الثانية إلى التصرف وكأنه موجة.

واتفق الباحثون أن يتم تعيين الإزاحة الثانية بعد الأولى.

وبهذه الطريقة، صمم فريق تشافيز طريقةً للتمييز بين النموذج السببي الكلاسيكي وميكانيكا الكم.

لنقل مثلًا أن الإزاحة الأولى قد تأخذ واحدةً من 3 قيم والثانية قد تأخذ قيمةً من قيمتين وبالتالي يكون لدينا 6 احتمالات تجريبية بالمجموع.

ثم قاموا بحساب ما يتوقعون الحصول عليه من أجل الحالات الست المختلفة.

هنا، اختلفت التوقعات بين النموذج السببي وميكانيك الكم.

ثم قاموا ببناء معادلة تأخذ احتمالات محسوبة من عدد المرات التي رصد فيها الفوتون عند أحد الكاشفين (بالاعتماد على قيمة كل من الإزاحتين) كمدخول، إذا ساوت المعادلة الصفر فإن النموذج السببي يفسر النتائج ولكن إذا أعطت المعادلة عددًا أكبر من الصفر؛ عندها لا يوجد أي تفسير كلاسيكي للتجربة.

تعاون تشافيز مع فابيو سكارينو، عالم فيزياء كمومية في جامعة روما لا سابينزا (University of Rome La Sapienza)، وزملاؤه لاختبار المتراجحة.

وفي الوقت نفسه، قام فريقان في الصين، أحدهما بقيادة جيان وي بان (Jian-Wei Pan)، وهو فيزيائي في جامعة العلوم والتكنولوجيا في الصين (University of Science and Technology of China USTC)) في هيفي في الصين، وآخر بقيادة غوانغ كان غو (Guang-Can Guo)، أيضًا من ال USTC بتنفيذ التجربة.

نفذ كل فريق المخطط بشكل مختلف قليلًا.

تمسك مجموعة غو بالأساسيات، إذ استخدمت مقياس تداخل ماخ؛ زيندر الفعلي.

يقول هوارد وايزمان Howard Wiseman الفيزيائي النظري بجامعة غريفيث في بريسبان بأستراليا Griffith University in Brisbane Australia، والذي لم يكن جزءًا من أي فريق: «هذا الفريق الذي أعتقد أنه كان الأقرب لاقتراح ويلر الأصلي».

لكن الثلاثة أظهروا أن المعادلة أكبر من الصفر مع دلالة إحصائية لا يمكن دحضها.

وبالتالي استبعدوا النماذج السببية الكلاسيكية من النوع الذي يمكن أن يفسر تجربة ويلر.

تم إغلاق الثغرة.

يقول بان: «لقد نجحت تجربتنا في إنقاذ تجربة ويلر الفكرية الشهيرة».

أعجب كايزر بعمل تشافيز النظري “الأنيق” والتجارب التي تلت ذلك.

يقول كايزر: «إن حقيقة أن كلًا من التجارب الأخيرة وجدت انتهاكات واضحةً للمتراجحة الجديدة تقدم دليلًا دامغًا على أن النماذج “الكلاسيكية” لمثل هذه الأنظمة لا تلتقط فعلًا طريقة عمل العالم».

تأتي المعادلة مع بعض الافتراضات.

وأكبرها هو أن المتغير المخفي الكلاسيكي المستخدم في النموذج السببي يمكن أن يأخذ إحدى قيمتين، مرمزةً في بت واحد من المعلومات.

يعتقد تشافيز أن هذا أمر معقول، لأن النظام الكمومي، كالفوتون، يمكنه أيضًا ترميز جزء واحد فقط من المعلومات.

ولكن المتغير المخفي الذي يحتوي على قدرة إضافية على حمل المعلومات يمكن أن يعيد قدرة النموذج السببي الكلاسيكي على تفسير الإحصائيات الملحوظة في تجربة ويلر المعدلة.

بالإضافة إلى ذلك، تظل نظرية المتغير المخفي الأكثر شعبيةً غير متأثرة بهذه التجارب.

إن نظرية دي برولي-بوم (de Broglie-Bohm)، وهي بديل محدد (deterministic) وواقعي (realistic) لميكانيكا الكم القياسية، قادرة تمامًا على شرح تجربة الاختيار المتأخر.

في هذه النظرية، تكون للجسيمات دائمًا مواقع (وهي المتغيرات المخفية)، وبالتالي لها حقيقة موضوعية، ولكنها موجهة من خلال موجة.

لذلك الواقع هو كل من الموجة والجسيم.

تمر الموجة عبر كلا المسارين، ولكن الجسيم يمر من خلال واحد أو آخر.

يؤثر وجود أو عدم وجود مجزئ الحزمة على الموجة، التي تقوم بعد ذلك بتوجيه الجسيمات إلى أجهزة الكشف؛ مع نفس النتائج تمامًا مثل ميكانيكا الكم القياسية.

بالنسبة إلى وايزمان، فإن الجدل الدائر حول كوبنهاغن مقابل دي برولي-بوم في سياق تجربة ويلر أبعد ما يكون عن الحل.

وكتب في رسالة بالبريد الالكتروني: «لذلك في كوبنهاجن لا يوجد انعكاس غريب للوقت تحديدًا لأننا لا نملك الحق في قول أي شيء عن ماضي الفوتون، في دي برولي-بوم هناك واقع مستقل عن معرفتنا، ولكن لا توجد مشكلة حيث لا يوجد انعكاس للوقت؛ هناك وصف سببي فريد (إلى الأمام في الوقت) لكل شيء».

ويريد كايزر، رغم أنه يثني على الجهود المبذولة حتى الآن، أن يدفع الأمور للأمام.

في التجارب الحالية، كان اختيار ما إذا كان تطبيق إزاحة الطور الثانية أولًا أو في جهاز تجزيء الحزمة الثاني في تجربة ويلر الكلاسيكية يتم بواسطة مولد عدد عشوائي.

لكن ما يجري اختباره في هذه المولدات هو ميكانيكا الكم نفسه، لذا فهناك نفحة من الدائرية.

وقال كايزر: «سيكون من المفيد التحقق ما إذا كانت النتائج التجريبية تبقى ثابتة، حتى في ظل تجارب تعتمد على مصادر عشوائية مختلفة تمامًا».

ولهذه الغاية، قام كايزر وزملاؤه ببناء مثل هذا المصدر العشوائي باستخدام فوتونات قادمة من الكويزرات البعيدة تم جمع الفوتونات بواسطة تلسكوب يبلغ ارتفاعه مترًا واحدًا في مرصد جبل تيبل في كاليفورنيا.

إذا كان الفوتون ذو طول موجي أقل من قيمة عتبة معينة، يعطي مولد الأرقام العشوائية صفر، وإلا يعطي 1، يمكن استخدام هذا البت (إما صفر و واحد) لاختيار الإعدادات التجريبية بشكل عشوائي.

إذا استمرت النتائج في دعم الحجة الأصلية التي قدمها ويلر، فإنه: «هذا يعطينا سببًا آخر للقول أن ازدواجية موجة الجسيم لن يتم تفسيرها من خلال تفسير فيزيائي كلاسيكي».

يقول ويلر: «تم تقليص مدى البدائل المفاهيمية لميكانيكا الكم مرةً أخرى، ثم دفعها مرةً أخرى إلى الزاوية».

في الوقت الحالي، عاد جسد التنين، الذي ظل محل التركيز لبضعة أسابيع قليلة، ليصبح دخانيًا غامضًا.


  • ترجمة: مهران يوسف.
  • تدقيق: أحلام مرشد.
  • تحرير: عيسى هزيم.
  • المصدر