لدينا مُذنّبات وكُويْكبات Comets and Asteroids تستحق الشكر لأنها هي مصدر المياة على الأرض، وذلك طبقًا للنظرية الأكثر قبولًا وانتشارًا بين العلماء.

ولكن الحقيقة أن هذا الرأي ليس قاطعًا بل يحتاج للنقاش أكثر من ذلك. فهو مازال مُحاطًا ببعض الغموض، فالدراسات الجديدة تقترح بأنه ليست كل مياه كوكبنا تكونت بهذا الشكل.

يكوِّن الهيدروجين مركز التساؤل عن مصدر المياه على الأرض، وهو العنصر الأكثر وفرةً في هذا الكون.

وفي دراسة جديدة والتي كان على رأس المشاركين فيها (بيتر بوسك Peter Buseck)، البروفيسور المتميز في مدرسة الأرض واستكشاف الفضاء وكلية العلوم الجزيئية في جامعة ولاية أريزونا، اقترح المؤلفون أن الهيدروجين جاء جزئيًا على الأقل، من السدّيم الشمسي solar nebula، وهي سحابة الغاز والغبار التي تبقت بعد أن تشكلت الشمس.

وقبل التنقيب في تفاصيل هذه الدراسة الجديدة، سيكون من المفيد أن نأخذ جولةً حول النظرية القديمة الشهيرة التي ربما قد يتم استبدالها.

مياه الأرض: النظرية الأوسع قبولًا

لزمن طويل، وأكثر العلماء يعتقدون أن المياه التي في المُذنّبات والكُويْكبات هي نسخة أخرى من المياة الأصلية التي هنا على الأرض، وجميع النسخ قد بدأت قديمًا مع تشكُل الشمس.

عندما تشكلت الشمس من سحابة جزيئية، فإنها اكتسحت الغالبية العظمى من مواد السحابة، تاركة القليل منها لأي شيءٍ أخر يتشكل، مثل الكواكب، الكويكبات، والنيازك. وبمجرد خلْق الشمس بتفاعلاتها الاندماجية المروعة، فإنها تُرسل الرياح الشمسية القوية والكثير من الهيدروجين من طبقاتها الخارجية إلى ما ورائها، حيث الكواكب التي لها قلوبٌ صخرية، وهي التي نعرفها اليوم وهي عطارد، الزهرة، الأرض، والمريخ.

إنه عالَم عمالقة الغاز – الكواكب الصخرية والشمس -والأكثر أهمية منه هو المُذنّبات والكُويْكبات.

المُذنّبات هي عبارة عن أجسام جليدية صخرية، ويُعتقد أنها تتكون من كميات هائلة من الهيدروجين القادم من الشمس عندما ظهرت للوجود قديمًا، وبالمثل الكويكبات، وإن كانت بدرجة أقل فإنها أصبحت هي الأخرى خزَّانات مهمة للهيدروجين.

عندما تشكلت الأرض، كانت عبارةً عن كرةٍ منصهرة، وظل سطحها يغلي ويفور لأنه كان يتلقى اصطدامات عنيفة متكررة من الكُويْكبات، ومن الجيد أن النظام الشمسي في بداية تكونه كان أكثر فوضى من الآن.

ومع توالي ضربات المُذنّبات والكُويْكبات للأرض الساخنة، بدأت تتبخر كل من المياه والهيدروجين التي بداخلهم. ومع مرور الوقت بدأت الأرض تبرد، وبذلك أصبح الماء الآتي من اصطدامات النيازك والكويكبات مسموحًا له بالتكثف، ولم يتبخر في الفضاء بل ظلَّ عالقًا حول الأرض.

الدليل على ذلك يكمُن في نسَب النظائر isotope ratios. إن نسبة الهيدروجين الثقيل الديوتيريوم (نظير الهيدروجين) إلى الهيدروجين العادي هو توقيعٌ كيميائي.

فإذا كان هناك جسمان عليهما مياه، ولهما نفس النسبة من النظائر، فحتمًا سيكون لهما أصلٌ مشترك. وإكمالًا لهذا التفكير المنطقي، فإن مياه محيطات الأرض لها نفس نسبة النظائر التي في المياه على الكُويْكبات.

هذا هو الملخص البسيط للنظرية الأكثر شهرةً عن كيفية قدوم المياه إلى الأرض.

مياه الأرض: نظرية الرشح وثغراتها

العلماء بطبعهم متذمرون، فهم دائمًا يحاولون أن يكون لديهم فهمٌ أفضل وأكثر شمولية للأشياء، وكانوا يتساءلون حول نظرية «المياه القادمة من المذنبات» حتى قبل ظهور الدراسة الأحدث.

في عام 2014، درس بعض العلماء هذه المسألة من خلال النظر إلى النيازك Meteorites من مختلف الأعمار. (النيازك هي كُويْكبات ضربت الأرض).

أولاً: نظروا إلى ما يعرف باسم نيازك الكوندرايت الكربونية *carbonaceous chondrite . وهي أقدم نيازك نعرفها، وقد تكونت في نفس الوقت الذي تكونت فيه الشمس. إنها لبنات البناء الأولى للأرض.

بعد ذلك، درسوا النيازك الأحدث التي نعتقد أنها نشأت من الكويكب الكبير فيستا Vesta.

تشكل فيستا في نفس منطقة الأرض، بعد حوالي 14 مليون سنة من ولادة النظام الشمسي.

وفقًا لدراسة 2014 هذه، فإن النيازك القديمة تماثل تركيب الجزء الأكبر من النظام الشمسي وهي تحتوي على الكثير من الماء، لذا فقد اعتُبرت على نطاقٍ واسع مصدرًا لمياه الأرض.

أظهرت القياسات في عام 2014 أن هذه النيازك لها نفس التركيب الكيميائي للكوندرايتات الكربونية والصخور على الأرض.

وبذلك فقد خلصوا إلى أن الكوندرايتات الكربونية هي المصدر الأكثر شيوعا للماء.

في ذلك الوقت، قال هورست مارشال ، أحد مؤلفي الدراسة: «لقد بينت الدراسة أن مياه الأرض على الأرجح قد تراكمت في نفس توقيت تكوُّن الصخور أي تكونت عبر الصخر نفسه، لقد تشكل الكوكب ككوكبٍ رطب يحتوي سطحه على المياه» وأقرَ الفريق الذي كان خلف هذه الدراسة أن بعض مياه الأرض جاءت من هذه التأثيرات.

وهو ما يقودنا إلى الدراسة الجديدة التالية، والتي تُعزز الاستنتاجات الخاصة بدراسة 2014.

مياه الأرض: كل شيء عن الهيدروجين

يقول مؤلفو هذه الدراسة الجديدة أن المحيطات ونسب نظائرها قد لا تحكي القصة كاملةً.

وقال ستيفن ديش، أستاذ الفيزياء الفلكية في كلية الأرض واستكشاف الفضاء في جامعة ولاية أريزونا: «إنها منطقة عمياء في المجتمع العلمي». «عندما يقوم الناس بقياس نسبة [الديوتريوم إلى الهيدروجين] في مياه المحيط، ويرون أنها قريبةٌ إلى حدٍّ كبير مما نراه في الكويكبات، كان من السهل دائمًا الاعتقاد بأن الماء قد جاء من الكويكبات» من الصعب أن نلومهم؛ إنه دليل مقنعٌ حقا.

ويشير ديش وغيره من مؤلفي هذه الدراسة الجديدة إلى الأبحاث المنشورة في عام 2015 والتي تبين أن محيطات الأرض قد لا تمثل المياه البدائية الأولية للأرض. حيث أن مياه المحيطات لها دورة بين السطح وبين خزانات المياه العميقة في أعماق الأرض.

وهذا بدوره قد غيّر النسب بمرور الوقت، وهذا يعني أن هذا الماء الأعمق يمثل على الأقل بعض الماء البدائي الحقيقي للأرض.

وهذه المياه العميقة جاءت بدورها بشكل مباشر من السديم الشمسي وليس من خلال تأثيرات النيازك والكويكبات.

لقد طورت الدراسة نموذجًا نظريًا جديدًا لتشكيل الأرض لشرح هذه الاختلافات بين الهيدروجين في محيطات الأرض وبين الهيدروجين في الوشاح الأرضي** Core-mantle boundary.

ويبين هذا النموذج الجديد الكويكبات المائية الكبيرة التي تم تكوينها داخل الكواكب منذ مليارات السنين في السديم الشمسي الذي يحوم حول الشمس***.

هذه الأجنة الكوكبية عانت من تصادم متسلسل ونمت بسرعة. وفي نهاية المطاف، كما يقولون، أدَّى اصطدامٌ قويٌّ بما يكفي إلى ذوبان سطح أكبر جنين وجعله عبارة عن محيط من الصهارة Ocean of magma.

هذا الجنين الأكبر صار كوكب الأرض.

هذا الجنين الكبير يمتلك من الجاذبية ما يكفي ليمسك بغلافٍ جويٍّ ويشده إليه، ويجذب الغازات بما فيها الهيدروجين الأكثر وفرةً، من السديم الشمسي. يحتوي الهيدروجين الموجود في السديم الشمسي على كمية أقل من الديوتريوم وهو أخف من الهيدروجين الكويكبي، لقد ذاب في الحديد المنصهر لمحيط الصهارة على الأرض.

يُسحب الهيدروجين إلى مركز الأرض بواسطة عملية تسمى تجزئة العناصر isotopic fractionation.

ثم ينجذب الهيدروجين إلى الحديد ويُسلِّمه الحديد إلى قلب الأرض. يظل الديوتيريوم نظير الهيدروجين في الصهارة، حتى تبرد بمرور الوقت لتشكل وشاح الأرض Earth’s mental. وتجلب التأثيرات المستمرة المزيد من الماء والكتلة إلى الأرض، حتى وصلت الكتلة إلى ما هي عليه اليوم.

النقطة الأساسية في هذا النموذج الجديد هي أن الهيدروجين الموجود في قلب الأرض يختلف عن الهيدروجين الموجود في الوشاح وفي المحيطات.

المياه الأساسية التي في القلب لديها ديوتيريوم أقل بكثير. ولكن ماذا يعني كل ذلك؟

سمح النموذج الجديد للمؤلفين بتقدير كميات المياه التي أتت من تأثيرات الكويكبات أثناء نمو الأرض وتطورها، مقارنةً بالمقدار الذي أتى من السديم الشمسي عندما تشكلت الأرض.

وملخص استنتاجهم هو الآتي:

يقول جون وو، أستاذ الأبحاث المساعد في كلية العلوم الجزيئية ومدرسة استكشاف الأرض والفضاء في جامعة ولاية أريزونا والمؤلف الرئيسي المشارك: «بالنسبة لكل 100 جزيء من ماء الأرض ، هناك واحد أو اثنان من السديم الشمسي».

الاستنتاج: إنه أكثر من مجرد مياه الأرض

هذه الدراسة هي وجهة نظر جديدة حول تكوين الكواكب، وتطورها، وكيف يمكن أن تزدهر الحياة المبكرة على كوكب مازال شابّا.

يقول جون وو: «يشير هذا النموذج إلى أن التكوين الحتمي للماء سيحدث على الأرجح في أية كواكب خارجية صخرية كبيرة بما فيه الكفاية في الأنظمة التي تقع خارج المجموعة الشمسية. أعتقد أن هذا أمرٌ مثير للغاية».

سابقًا، كنا نظن أن الكواكب الوحيدة التي يمكن أن تكون لها حياة على سطحها يجب أن تكون في نظامٍ شمسيٍّ غني بالكويكبات والمذنبات الحاملة للماء. لكن ربما هذه ليست المشكلة.

ففي النظم الشمسية الأخرى، ليس كل الكواكب الشبيهة بالأرض لديها إمكانية الوصول إلى الكويكبات المحمَّلة بالماء.

تقترح الدراسة الجديدة أن أية كواكب خارجية صالحة للحياة يمكن أن تكون حصلت على الماء من السديم الشمسي في نظامها.

تُخفي الأرض أغلب مائها داخلها، فالأرض لديها محيطان تقريبًا في وشاحها، و4 أو 5 محيطات في قلبها.

وقد تكون الكواكب الخارجية مشابهةً للأرض.

وقال وو: «هذا النموذج يشير إلى أن التكوين المحتوم للمياه سيحدث على الأرجح في أية كواكب خارجية كبيرة بما يكفي في الأنظمة خارج المجموعة الشمسية. أعتقد أن هذا مثيرٌ للغاية».

هناك نقطةٌ تحذيريةٌ واحدة في هذا النموذج الجديد، والتي تنطوي على تجزئة الهيدروجين. ليس من المفهوم جيدًا كيف تتغير نسبة الديوتريوم إلى الهيدروجين عندما يذوب العنصر في الحديد، والذي هو في قلب هذا النموذج الجديد.

كان لا بد من تقديرها في هذه الدراسة الجديدة.

بشكلٍ عام، تتناسب الدراسة الجديدة بشكلٍ جيد مع الأبحاث الأخرى على مياه الأرض.

وإذا تم مرةً أخرى العمل على تجزئة الهيدروجين، يمكن حينها اختبار النموذج الجديد بشكلٍ أكثر صرامة.

 

* الكوندرايتات الكربونية Carbonaceous Chondrites هي حبيبات دائرية تكون في جسم النيزك الساقط على الأرض من الفضاء.

** الوشاح هو الجزء الأكبر من باطن الأرض، وهو الذي يقع بين النواة الكثيفة وهي قلب الأرض وبين الطبقة الرقيقة التي في الأعلى وهي القشرة الأرضية.

*** النظرية الجديدة لتشكل الأرض، مفادها أن الكواكب تشكلت من الكويكبات المائية الكبيرة في حجمها، فهذه الكويكبات كانت بمثابة أجنة كوكبية، كانت مشدودة بالجاذبية حول نجم شاب وتدور حوله، وتحت تأثير الإصطدامات العنيفة، يزداد حجم هذه الأجنة حتى لحظةٍ معينة يتحول فيها الجنين الكويكب إلى كوكب مثل أرضنا .

 


  • المترجم: أحمد فوزي
  • تدقيق: بدر الفراك
  • المحرر: ماتيو كيرلس
  • المصدر