نعتقد دائمًا أنّ الزجاج الذي نشاهده صلب، ولكنّ هذا غير صحيح، فالزجاج يخضع لإحدى حالات المادة والتي تُدعى (المواد غير المستقرة – metastates)، وهذا ما سنتعرف عليه في هذا المقال.

لو ذهبت في رحلة ما إلى كنائس أوروبا التي تعود إلى العصور الوسطى، ستجد الزجاج الموجود في تلك الكنائس يتميّز بخاصيّةٍ غريبة، وهي أنّ الزجاج سميك أكثر في الطرف السفلي منه في العلوي. علمًا أنّ هذا الزجاج موجود منذ عدة قرون، يُفسّر الناس هذه الظاهرة بكون الزجاج -الذي نعتبره في حياتنا اليوميّة صلبًا- هو في الحقيقة سائل، ونتيجة لتعاقب القرون على زجاج الكنائس القديمة فإنّ الزجاج تعرّض لحالة سريان من الأعلى للأسفل، إذ أنّه سائل حقًا.

لكنّ هذا التفسير غير علميّ وغير صحيح أبدًا، فالزجاج الموجود في تلك الكنائس وقتها أُطلِقَ عليه اسم “زجاج التاج”، وهو لديه عيب صناعة بسبب سوء الأدوات المُستخدمة في صناعته وقتها، ما أحدث اختلافًا واضحًا في سُمك الزجاج بين طرفيه. ولتفادي هذا العيب الصناعيّ رُكِّب الزجاج بالصورة التي يتواجد بها الآن، فيتجه الجزء الأكثر سُمكًا نحو الأسفل، ويتواجد الطرف النحيف أو الأقل سُمكًا بالأعلى، بهدف تفادي مشاكل الضغط بين قطع الزجاج المُركبة.

حتّى نقدّم إجابة حول عنوان المقالة، ومعرفة حالة المادة في الزجاج، علينا أن نقوم بدراسةٍ سريعةٍ للديناميكا الحراريّة وخواص المادة، ومقارنة تلك الدراسة بالزجاج، ثمّ نستنتج حالة المادة فيه.

-خواص الديناميكا الحراريّة بالنسبة للزجاج

تمتلك العديد من المواد الصلبة بنيةً بلوريّةً على المستوى الميكروسكوبي، وكأنّ جُزيئاتها مُرتبة بشكلٍ مُنتظم للغاية. عند تسخين تلك المواد تهتز جُزيئاتها في مواضعها، وعند الوصول لدرجة الانصهار، تتحرك هذه الجُزيئات وتنساب من مواضعها وينهار الشكل المُنظّم الذي تتواجد فيه. هناك فارق كبير بين الحالة الصلبة والحالة السائلة للمادة، ويتّضح هذا الفارق جليًا عند تحوّل الحالة الصلبة إلى الحالة السائلة، إذ تتغيّر خواص المادة تدريجيًا على مراحل أثناء هذا التحول -مثل الكثافة-. وتُعدّ عمليّة “التجمد” أيّ عند تحوّل المادة من الحالة السائلة إلى الحالة الصلبة وإطلاقها حرارةً – ما يُعرف باسم “حرارة الأنصهار”- أبرز مثالٍ يوضِّح هذه الفكرة.

ترتيب جُزيئات المادة في الحالة الصلبة

أحدى الخواص الفيزيائيّة الأخرى للسوائل، هي اللزوجة، وهي مقدار مقاومة المادة -في الحالة السائلة- للتدفق، فلزوجة الماء في درجة حرارة الغرفة العاديّة تساوي .01 poises0، بالمقابل، فإنّ لزوجة الزيت أعلى بكثير من لزوجة الماء وتصل إلى 1 poises.
كلّما انخفضت درجة حرارة السائل، زادت لزوجته، ولكنّ اللزوجة تمنع جزيئات المادة السائلة من التراص في هيئة بلورات مثل المواد الصلبة. وعادةً كلّما زادت برودة المادة الصلبة –لما هو أقل من نقطة الانصهار- تبدأ البلورات بالتكوّن وتتراص كهيئة المواد الصلبة، ولكن قد تتحوّل المادة السائلة إلى حالاتٍ أخرى عند انخفاض الحرارة أكثر وأكثر، وهي حالة (التبريد الفائق – Supercooled)، إذ تظلّ المادة السائلة في حالتها السائلة حتّى لو تخطّت نقطة الانصهار، وهذا يعود لعدم وجود مناطق مركزيّة تبدأ عندها الجُزيئات بالتبلور.
في حال زادت اللزوجة بالقدر الكافي -كلّما انخفضت درجة الحرارة- ربّما لن تتبلور أبدًا، فاللزوجة تزداد بشكر طرديّ ومستمر، لتصبح في نهاية الأمر مادة سائلة، سميكةً للغاية، أو بشكلٍ أدقّ، تصبح مادةً صلبةً ولكنّها غير متبلورة. وتكون جُزيئات هذه المادة غير متراصة بشكلٍ منتظم، كما هو الحال في المادة الصلبة العاديّة، ولكنها تكون متماسكة بشكلٍ كافٍ لتترابط مع بعضها وتبدو صلبة، يُطلَق على هذه الحالة من المادة اسم (الزجاج أو مواد صلبة غير متبلورة – amorphous solid or glass).

ترتيب الجُزيئات في الزجاج

يدّعي البعض أنّ الزجاج ما هو إلّا سائل فائق التبريد؛ وهذا يعود لعدم وجود مرحلة انتقاليةٍ أولى عند تحوّله من الحالة السائل إلى الحالة الصلبة، ولكنّ هذا غير صحيح. إذ أنّنا نرصد مرحلةً انتقاليّةً ثانية عند تحوّل السوائل فائقة التبريد إلى زجاج، ولكن يصعُبُ ملاحظة هذه المرحلة مثل المرحلة الأولى؛ وذلك لأنّ التغير في الكثافة لا يكون كبيرًا كما هو الحال في المرحلة الأولى، ولا تتغيّر حرارة الانصهار بشكلٍ كبيرٍ مثل المرحلة الأولى، ولكنّ التغيير الملحوظ يكون في السعة الحراريّة للمادة. درجة الحرارة الكامنة في الزجاج تعتمد بالأساس على سرعة التبريد التي تخضع لها تلك المادة التي تحوَّل إلى زجاج، فكلّما كان التبريد بطيئًا، كانت درجة الحرارة الكامنة في الزجاج أعلى وتستمر لفترة أطول، ويصبح الزجاج الناتج أكثر كثافةً. ولكن علينا أن نُراعي درجة التبريد تلك، لنتجنب الوصول إلى الحدّ المسموح وتحوُّل المادة إلى الحالة الصلبة بدلًا من تحوُّلها إلى زجاج.

يُمكننا تلخيص الوضع بالمستوى الفيزيائي الجُزيئيّ من خلال توضيح وجود ثلاثة أنواع لترتيب الجزيئات مع بعضها كالأتي:

1. المواد الصلبة البلوريّة: تتراص فيها الجُزيئات بشكلٍ منظّم للغاية.
2. السوائل: تتراص فيها الجُزيئات بشكلٍ عشوائيّ، ويصبح الترابط بينها ضعيف، ما يترتب عليه اختفاء الصلابة.
3. الزجاج: تتراص فيها الجُزيئات بشكلٍ عشوائيّ، ولكن مع ترابطٍ قويّ بينها بعضها لابعض، ما يترتب عليه وجود الصلابة.
وللأمانة العلميّة يتوجب علينا القول بأنّ هذا الترتيب غير مُلزم لعلماء الفيزياء ويمكن أن يتغيّر بين ليلةٍ وضحاها، خصوصًا أنّ العلماء استطاعوا مؤخرًا إنتاج مادة وسط بين الزجاج والحالة السائلة.

نستنتج أخيرًا، أنّ الزجاج -وفقًا لخبراتنا اليوميّة ومشاهدتنا، على مستوى الكون المرئي- صلب. ولكن على مستوى الديناميكي الحراريّ والفحص الميكروسكوبيّ، فهو حالة مميّزة من المادة، حالة غير مُستقرة أو “metastates”، يُطلق عليها البعض “سائل شديد اللزوجة” أو “صلب غير متبلور”.

المصدر

ترجمة مازن عماد – تدقيق آية فحماوي