تُعبّر (الطفرات الجينية-genetic mutations) عن تبدلات في تسلسل الحمض الريبي النووي منزوع الأكسجين «DNA» المكوِّن للجينة، والحامل للمعلومات الوراثية المتناقَلة بين الأجيال، والمؤثر على شكل الكائن، سلوكه، وكيفية عمل أعضائه، وبناءً على ذلك، التبدلات التي تطرأ عليه يمكنها أن تؤثر على كافّة أصعدة الحياة.

الأساس الجزيئي للطفرات

لفهم ماهية الطفرات، يتوجب معرفة الآلية التي يقوم بها الحمض الريبي النووي منزوع الأكسجين «DNA» بعمله، فهو يحتوي على مجموعة من التعليمات اللازمة لِبناء الإنسان، وهذه التعليمات منقوشة في جزيئاته من خلال ما يُسمى بالشيفرة الجينية، بحيث يكون الأمر كالآتي:

يتألف الـ DNA من سلالات طويلة تشكّلها أربع وحدات أساسية صغيرة هي: (الأدنين-(Adenine، (الثيامين-Thymine)، (الغوانين-(Guanine، و(السيتوزين-Cytosine)، وتُمَثَّل هذه الأسس بالأحرف: «A»  للأدنين، «T» للثيامين، «G» للغوانين، و«C» للسيتوزين.

يُرمِّز تسلسل هذه الأسس تعليمات أو أوامر، بحيث تكون بعض أجزاء الحمض النووي عبارة عن مراكز تحكم لتفعيل وإيقاف الجينات، وأخرى ليس لها أية وظيفة، وأجزاءٍ قد يكون لها وظيفة لم نفهمها بعد، وأخرى تُمثِّل جيناتٍ تحملُ تعليماتٍ لصنع البروتينات «سلاسل طويلة من الأحماض الأمينية» التي تساعد في بناء العضوية.

يمكن أن تُقَسَّم الأجزاء التي تُرمِّز البروتينات إلى مجموعاتٍ تُسمى (كودونات-Codons)  ويتكون كل كودون من ثلاثة أسس تُرمِّز حمضًا أمينيًا معيّنًا أو نهاية البروتين.

إذ تستخدم آلية خلوية التعليمات لصنع سلسلة مقابلة من الأحماض الأمينية «حمض أميني واحد لكل ثلاثة أسس» المكوِّنة للبروتين، فعلى سبيل المثال: يُسَمَّى الحمض الأميني المقابل للكودون «GCA» (ألانين –Alanine)، وبهذه الطريقة يتكون عند الإنسان 20 حمضًا أمينيًا مختلفًا من الكودونات المُتَرجمة، إضافةً إلى وجود كودونات تحدد نهاية البروتين تُسَمى «كودونات الوَقف»، وبعد اكتمال بناء البروتين اعتمادًا على تسلسل الأسس في الجينة، ينطلق للقيام بعمله.

أنواع الطفرات الجينية

يوجد العديد من الطرق المختلفة لحدوث التبدُّلات في الـحمض النووي، ما ينتج عنه أنواع مختلفة من الطفرات، وفيما يلي ملخصٌ سريعٌ لبعضٍ منها، إذ توجد أنواع أخرى من الطفرات، ولكن هذه القائمة القصيرة يجب أن تعطي فكرة عن الاحتمالات الممكنة:

  • (طفرات الاستبدال-Substitution Mutations)

هي طفرات يحدث فيها استبدال لأحد الأسس بآخر «أي تبديل في حرف كيميائي واحد، كإحلال A محل G مثلًا»، وفي ذلك يمكننا تمييز الحالات التالية:

  1. تبديل كودون بآخر يُشَفِّر حمضًا أمينيًا مختلفًا، ما يتسبب بتبدُّل صغير في البروتين الناتج، فعلى سبيل المثال: يحدث فقر الدم المنجلي بسبب استبدال في جينة البيتا غلوبين، يؤدي إلى تغيُّر حمض أميني واحد في البروتين الناتج.
  2. تبديل كودون بآخر يُشَفِّر نفس الحمض الأميني، وبالتالي لا يؤدي ذلك لأي تغيير في البروتين الناتج، ولهذا تُسمى الطفرات في تلك الحالة «الطفرات الصامتة».
  3. تبديل كودون يُشَفِّر حمضًا أمينيًا ما بأحد كودونات الوقف، وهذا قد يحمل آثارًا خطيرةً لأنّ البروتين الناتج سيكون غير مكتمل، وعلى الأرجح غير وظيفي، وبالتالي لن يقوم بالمهمة المُفتَرَض إنجازها.
  • (طفرات الإدخال «الغرز»-Insertion Mutations): هي طفرات يحدث فيها إدخال أساس أو أكثر إلى مكان جديد من الحمض النووي.
  • طفرات الحذف: هي طفرات يحدث فيها حذف أو فقدان لجزء من الحمض النووي.
  • طفرات انزياح الإطار-(Frame-shift Mutations تؤثّر التغييرات الناتجة عن الحذف والإدخال على قراءة الجينة بالشكل الصحيح، وتدعى هذه التغييرات «طفرات انزياح الإطار».

وللتوضيح، نفترض أنّ كل كلمة في الجملة التالية «The fat cat sat» تُمَثِّلُ كودونًا، فإذا حذفنا أول حرف من أول كلمة، ثم قرأنا الجملة بنفس الطريقة، فإن الجملة ستصبح «hef atc ats at»، وبالتالي دون معنى مفهوم، وبنفس الطريقة، يحدث مثل هذا الخلل على مستوى الـحمض النووي، لينتج عن قراءة الكودونات -في هذه الحالة- بروتين مبتور غير نافع.

أسباب الطفرات

تحدث الطفرات لأسبابٍ عديدةٍ:

  • فشل نسخ الـحمض النووي بدقّة: يحدث هذا في معظم الطفرات التي يُعتَقَد بأنها مهمة للتطور «بشكل طبيعي»، وعلى سبيل المثال: تصنع الخلية عند انقسامها نسخة من الحمض النووي الخاص بها، لكن في بعض الأحيان تكون النسخة غير مثالية تمامًا، وبذلك يكون هذا الاختلاف الصغير عن تسلسل الـحمض النووي الأصلي هو الطفرة.
  • التأثيرات الخارجية يمكن أن تخلق طفرات: يتسبب التعرُّض لموادٍ كيميائيةٍ أو إشعاعيةٍ محددةٍ بحدوث الطفرات، إذ تؤدي هذه العوامل إلى تضرُّر الحمض النووي، وليس بالضرورة أن يحدث ذلك في  ظروفٍ غير طبيعيةٍ، فقد يحدث الضرر حتى في أكثر البيئاتِ عزلةً ونقاءً، وعلى أي حال، تقوم الخلية بإصلاح الضرر، وعندما لا تتم هذه العملية بشكلٍ مثاليٍّ، ستنتهي الخلية بحمضٍ نوويٍّ «DNA» مختلفٍ قليلًا عن الحمض النووي الأصلي، وبالتالي حدوث طفرة.

الآثار الناتجة عن الطفرات:

تحتوي كل خلايا الجسم على أحماض النووية، وبالتالي يوجد الكثير من الأماكن التي قد تحدث بها الطفرات في الجسم، وتكون بعض الطفرات غير قابلة للتوريث، وتُدعى «طفرات جسدية»، وطفرات أخرى يمكن نقلها للأجيال اللاحقة، وتدعى  «طفرات الأمشاج الجنسية».

  • (الطفرات الجسدية- Somatic Mutations): هي تغيُّر مكتسب يمكن أن ينتقل إلى ذُرّية الخلية المتحوِّرة خلال عملية الانقسام، وكثيرًا ما تحدث هذه الطفرات بسبب عوامل بيئية مثل الأشعة فوق البنفسجية، أو التعرُّض لموادٍ كيميائيةٍ معيّنةٍ، وهي لا تُورّث للأجيال التالية، ولكنها قد تؤدي إلى انطلاق بعض الأمراض، كالسرطان مثلًا.
  • (طفرات الأمشاج الجنسية-Germ Line Mutations): لهذه الطفرات أهمية كبرى في عملية التطور، لأنها تحدث على مستوى الخلايا التناسلية كالنطاف والبويضات، وبالتالي قابلة للتوريث، ويمكن لطفرة واحدة أن تمتلك طيفًا من الآثار:
  1. لا تغيُّر في النمط الظاهري: لا تؤدي بعض الطفرات إلى أي تأثير ملحوظ على النمط الظاهري للكائن الحي، ويمكن أن يحدث هذا في العديد من الحالات، كأن تحدث الطفرة ضمن منطقة من الحمض النووي ليس لها أي وظيفة، أو قد تحدث في منطقة ترميز للبروتين، ولكن دون أن تؤثر على تسلسل الأحماض الأمينية للبروتين.
  2. تغيُّر بسيط في النمط الظاهري: تسببت إحدى الطفرات بانحناء أذني القط الذي بالصورة إلى الخلف. 
  3. تغيُّر كبير في النمط الظاهري: تنتج بعض التغيُّرات الظاهرية الهامة، كمقاومة بعض الحشرات لمبيد «DDT»، بسبب أحد الطفرات، ويمكن أن تؤدي طفرة واحدة إلى تأثيراتٍ سلبيةٍ شديدةٍ على العضوية، وتُسَمَّى الطفرات التي تتسبب في موت العضوية بأنها قاتلة أو مميتة ولا يمكن أن يسوء الأمر أكثر من ذلك.

تتحكم بعض الجينات بعمل جيناتٍ أخرى، فتحدد زمان ومكان تفعيلها، ويمكن أن تؤدي الطفرات في جينات التحكم إلى تغييراتٍ كبيرةٍ وواسعةِ النطاق، فالعديد من الكائنات الحية لديها جينات تحكم قوية تحدد كيفية ارتسام الجسم، وعلى سبيل المثال: تمتلك العديد من الحيوانات -بما في ذلك الحشرات الطائرة والبشر- جيناتٍ تدعى بجينات هوكس أو جينات النحت، إذ تُحدد هذه الجينات مكان الرأس والمناطق التي ستنمو منها ملحقات أخرى من الجسم، أي أنها تساعد في توجيه بناء وحدات الجسم كالأطراف والعينين، وبالتالي احتمال حدوث اختلاف كبير في بنية الجسم الأساسية، إذ يكفي حدوث اختلاف في هذه الجينات، إضافةً إلى اصطفاء ذلك من قبل الانتقاء الطبيعي.

من الحقائق الغريبة: يمكن لطفرات جينات التحكم أن تحوّل جزءًا من الجسم إلى آخر، فقد درس الباحثون حالة يحمل فيها نوع من الحشرات الطائرة طفرات في جينات هوكس أدّت إلى نمو ساق على الجبهة عوضًا عن قرن استشعار!.

يمكن للطفرات أن تكون مفيدة أو محايدة أو ضارة بالنسبة للكائن الحي، ولكنها لا تحاول تقديم ما يحتاجه، وقد تؤثر العوامل البيئية على معدلات التحوّر «حدوث الطفرات»، ولكن لا يُعتقد عمومًا أنها تؤثر على اتجاه الطفرة.

على سبيل المثال: قد يؤدي التعرُّض للمواد الكيميائية الضارّة إلى زيادة معدل حدوث الطفرات، ولكن لن يسبب المزيد من الطفرات التي تجعل الكائن مقاومًا لتلك المواد الكيميائية، أي أنّ الطفرات عشوائية، وحدوثها غير مرتبط بمدى فائدتها.


  • ترجمة: دانيا الدخيل
  • تدقيق: محمد سعد السيد
  • تحرير: زيد أبو الرب

المصدر