أثبت العلم مرارًا كونه وسيلةً موثوقةً يمكن الاعتماد عليها في الإجابة عن جميع أنواع الأسئلة الخاصة بالعالم المادي. لكن، هل يمكن للعلم أن يجيب عن تلك الأسئلة الوجودية الكبرى التي تخطر في بالنا؟ عن هذا السؤال يجيب بيتر أتكينز عالم الكيمياء الإنجليزي من جامعة أكسفورد ومؤلف العديد من الكتب العلمية.

بداية، ما المقصود بالأسئلة الكبرى؟!

يمكن تقسيم تلك الأسئلة إلى فئتين. تتضمن الفئة الأولى الأسئلة المختلقة اعتمادًا على الاستنتاجات غير المبررة للتجربة الإنسانية. إذ تشمل هذه الفئة عادةً الأسئلة المتعلقة بهدف وغاية الوجود، والقلق حول فناء الذات، على سبيل المثال: لماذا نحن هنا؟ وما هي صفات الروح؟

يمكننا القول أن هذه الأسئلة ليست أسئلة حقيقية؛ لأنها لا تستند إلى أي أدلة أو براهين. وبالتالي، ونتيجةً لعدم وجود دليل ما حول هدف الكون، فلا فائدة من محاولة فهم غاية الوجود. وكذلك نظرًا لعدم وجود دليل مادي على وجود الروح (باستثناء المعنى المجازي)، فليس هناك غاية من التساؤل حول صفات الروح.

يمكن القول أن معظم هذه الأسئلة مضيعة للوقت، فهي لا تعتمد على المنطق العقلاني.

لماذا العلم هو الوحيد القادر على الإجابة عن أسئلتنا الكبرى العلم عن الروح أهمية العلوم في الحياة الإنسانية الأسئلة الكبرى الوعي السؤال

أما الفئة الثانية فهي تتضمن الأسئلة المتعلقة بطبيعة الكون والوجود، ويمكنها أن تخضع للتفكير العقلاني، وتستند على أدلة وبراهين بعيدًا عن النصوص الدينية. تشمل هذه النوعية الأسئلة المتعلقة بمنشأ الكون، وكيفية وجود شيء بدلًا من لا شيء، وبنية الكون (خاصةً القوة النسبية للقوى الأساسية ووجود الجسيمات الأولية)، وطبيعة الوعي.

تشمل الأسئلة الأولى عادةً الأسئلة المطروحة حول السبب (لماذا)، بينما تشمل الفئة الثانية الأسئلة المطروحة حول الطريقة (كيف). لكن في بعض الأحيان يمكن للفئة الثانية أن تبدأ بلماذا؛ لتجنب الوقوع في الأخطاء اللغوية ولسهولة الحوار. على سبيل المثال، السؤال: “لماذا يوجد شيء بدلًا من لا شيء؟ ما هو إلا صورة أخرى من السؤال: “كيف نشأ شيء من لا شيء؟”.

قد يبدي البعض اعتراضه على استخدام الكاتب مغالطة (الاستدلال الدائري – circular argument)، إذ يقول إن الأسئلة الحقيقية الكبرى هي تلك الأسئلة التي يستطيع العلم الإجابة عنها، مع ترك الأسئلة المختلقة الأخرى جانبًا. قد يكون ذلك صحيحًا، وبالرغم من ذلك فيمكن اعتبار الأدلة المتاحة للجميع غربالًا جيدًا للتمييز بين الفئتين. وأساس العلم هو الدليل.

العلم يشبِه مايكل أنجلو، الشاب الذي أظهر براعته في النحت من خلال تمثال (بيتتا – Pietà) في الفاتيكان، والرجل الناضج الذي صقل مهاراته واكتسب من خلالها مفاهيم فنيةً جديدةً وخلق أعماله التجريبية الاستثنائية. يمتلك العلم طريقًا مماثلًا، فعلى مدار أربعة قرون من السعي الجاد -بداية من جاليليو- عند امتزاج الأدلة بالرياضيات، ونشوء العديد من المفاهيم والإنجازات العظيمة عنها، اكتسب العلم النضج.

أصبحنا الآن قادرين على التعامل مع الأمور الأكثر تعقيدًا من خلال توضيح وشرح الملاحظات البسيطة. في الواقع، ساهمت العمليات الحسابية، والبراهين الرياضية المستخدمة في النظريات، والكشف عن أنماط البيانات الضخمة، في انتشار العقلانية وإثراء المنهج العلمي بزيادة المنطق التحليلي.

والآن أصبحت مبادئ العلم الثلاثة -الملاحظة، والتحليل، والاستنتاجات الرياضية- جاهزة للإجابة عن الأسئلة الكبرى الحقيقية، وهي وفقًا للترتيب الزمني: “كيف بدأ الكون؟”، و”كيف نشأت الحياة من المادة؟”، و”كيف نشأ الوعي لدى المادة الحية؟”، وعند فحص هذه الأسئلة، سنستخلص العديد من الأسئلة الأخرى بداخلها، على سبيل المثال في السؤال الأول نستخلص أسئلةً مثل: “كيف وُجدت القوى الأساسية والجسيمات الأولية؟”، و”ما مصير الكون في المستقبل البعيد؟”، و”كيف اتحدت ميكانيكا الكم مع الجاذبية؟”.

لا يشمل السؤال الثاني فقط تفاصيل تحوّل المادة غير العضوية إلى المادة العضوية، بل يشمل أيضًا تفاصيل تطور الأنواع وفروع البيولوجيا الجزيئية. وبالنسبة للسؤال الثالث، فإنه لا يتضمن فقط قدرتنا على التفكير والإبداع، بل يتضمن أيضًا طبيعة الأحكام الأخلاقية والجمالية. يمكن للعلم على الأقل أن ينير لنا الطريق للإجابة على سؤال سقراط: “كيف يجب أن نعيش؟”، عند استعانتنا بالعلوم الاجتماعية بما في ذلك الأنثروبولوجيا، وعلم الأخلاق، وعلم النفس، والاقتصاد.

ترتبط هذه الأسئلة الثلاثة ببعضها في حلقة واحدة. على سبيل المثال في السؤال الثالث لا نستطيع فهم المقصود بالوعي من دون الفهم الكامل العميق لنسيج الواقع، ما يعود بنا إلى السؤال الأول. لدينا بالفعل الآن بعض التلميحات من ميكانيكا الكم حول علاقة الدماغ البشري بفيزياء الكم.

العلاقة الغريبة بين الدماغ البشري وفيزياء الكم

يعتمد العلم دائمًا على مبدأ التفاؤل، الذي يعطينا الصبر ويدفعنا إلى السعي والجهد والتعاون ويخبرنا أن الفهم سيحضر يومًا ما. لا يوجد سبب يدفعنا إلى الاعتقاد بأن تفاؤلنا في غير محله، فلطالما وُجد التفاؤل في الماضي. ربما تتعثر أقدامنا في الطريق، ربما يدفعنا جهدنا إلى أزقة عمياء (نظرية الأوتار مثلًا) لكن سرعان ما ينجلي الظلام.

ربما تأخذنا النماذج المُعدلة من النسبية وميكانيكا الكم إلى اتجاهات تفكير لا يمكن تخيلها حاليًا، وربما نكتشف أن الكون عبارة عن نظام حوسبي كبير، أوربما نترك فهمنا للوعي لأجهزة الذكاء الاصطناعي التي اعتقدنا أنها مجرد أجهزة محاكاة. وقد تظهر مستقبلًا الحلقة التي تربط الأسئلة الثلاثة ببعضها مرةً أخرى، وعندها سيمتلك الوعي الاصطناعي الذي سنبنيه القدرة على الإجابة عن السؤال: “كيف نشأ شيء من لا شيء؟”.

اقرأ أيضًا:

كيف تعرف الفرق بين العلوم الجيدة والسيئة ؟

كيف تحمي دماغك من الأخبار المزيفة؟

ما هو الحد الأقصى (إن وجد) الذي يمكن للمعرفة البشرية أن تبلغه؟

هل ينفي العلم حقًا وجود هدف للحياة؟

هل الحقائق العلمية لا تكذب فعلًا؟

ما الفرق بين الاستدلال الاستنتاجي والاستدلال الاستقرائي؟

المصدر

ترجمة: شيماء ممدوح

تدقيق: آية فحماوي