النموذج المعياريلفيزياء الجسيمات! ياله من اسمٍ مناسب لأدق النظريات العلمية التي عرفتها البشرية. كانت أكثر من ربع جوائز نوبل في الفيزياء خلال القرن الماضي، نتيجةً مباشرةً للنموذج المعياري. يتذكر العديد منا ذلك الابتهاج الذي ساد بين العلماء عام 2012م حين اُكتشِف بوزون هيغز، لكن لم يأتِ ذلك الحدث الصاخب من العدم -لقد توج ذلك الحدث خمسة عقود من الانتصارات للنموذج المعياري- الذي يتضمن كل القوى الأساسية إلا الجاذبية، وباءت كل المحاولات المخبرية الهادفة إلى اختبار النموذج والتشكيك به إلى الفشل، وشهدت الخمسة عقود الأخيرة العديد من المحاولات المشابهة.

باختصار، يجيب النموذج المعياري عن هذا التساؤل: من ماذا يتشكل كل شيء؟ وكيف يتماسك ببعضه بعضًا؟

انطلاقًا من أصغر اللبنات:

أنت تعلم من دون شك، أن الكون الذي من حولنا مكون من جزيئات، والجزيئات مكونة من ذرات، وقد تمكن الكيميائي ديمتري مندليف (Dmitri Mendeleev) عام 1860م من ترتيب كل الذرات ضمن ما نعرفه اليوم بـ (الجدول الدوري) -العناصر- الذي قمت بدراسته على الأرجح في الثانوية.

النموذج المعياري لفيزياء الجسيمات نظرية النموذج المعياري الكواركات البروتونات الإلكترونات النيوترونت الجسيمات الأولية البوزيترونات

يوجد (118) عنصرًا كيميائيًا مختلفًا، نجد فيه الإثمد (الأنتيمون)، والألومنيوم، والزرنيخ، والسيلينيوم… و114 عنصرًا آخر. يفضل الفيزيائيون الأمور البسيطة، فهم يريدون تفكيك الأمور إلى جوهرها؛ تلك اللبنات الأساسية.

إن وجود أكثر من 100 عنصر كيميائي ليس بالأمر البسيط، فقد ظن القدماء أن كل شيء مكون من خمسة عناصر فحسب -التراب والماء والنار والهواء والأثير- ربما خمسة عناصر أبسط بكثير من (118) عنصرًا، لكنها فكرة خاطئة.

تمكن العلماء بحلول عام 1932م، من معرفة أن تلك الذرات تتكون من ثلاثة جزيئات فحسب، هي: (النيوترونات، والبروتونات، والإلكترونات)، ترتبط النيوترونات والبروتونات ببعضها البعض بشكلٍ قوي ضمن النواة، بينما تحوم الإلكترونات الأخف من نظيراتها بآلاف المرات حول النواة، بسرعاتٍ تكاد تصل إلى سرعة الضوء؛ وفي هذا الشأن قام علماء الفيزياء المعروفين لنا جميعًا، (بلانك، وبور، وشرودنجر، وهايزنبرج) بابتكار علمٍ جديد -ميكانيكا الكم- لتفسير هذه الحركة.

كان ليبدو التوقف عن ذلك مرضيًا، ثلاثة جسيمات فقط؛ إذ ثلاثة أبسط من خمسة، لكن كيف تتماسك مع بعضها البعض؟

تترابط الإلكترونات المشحونة سلبًا مع البروتونات المشحونة إيجابًا عن طريق القوة الكهرومغناطيسية، لكن البروتونات بدورها تجتمع في النواة، رغم أن شحنتها الموجبة كان يجب عليها أن تبعدها عن بعضها البعض بقوة، ولا يمكن للنيوترونات منعدمة الشحنة المساعدة هنا.

توسعة (حديقة الجسيمات):

رفضت الطبيعة في الوقت نفسه، وبشكلٍ عنيف اقتصار حديقة الجسيمات الخاصة بها على ثلاثة جسيمات فقط. في الحقيقة يمكننا إحصاء أربعة جسيمات؛ لأننا مضطرون لوضع الفوتون -جسيم الضوء الذي وصفه آينشتاين- ضمن حساباتنا.

النموذج المعياري لفيزياء الجسيمات نظرية النموذج المعياري الكواركات البروتونات الإلكترونات النيوترونت الجسيمات الأولية البوزيترونات

أربعة جسيمات تحولت إلى خمسة؛ وذلك عندما قام أندرسون بقياس الإلكترونات المشحونة إيجابًا -البوزيترونات- التي تقصف الأرض تكرارًا من الفضاء الخارجي، ولكن على الأقل توقع بول ديراك وجود جسيمات المادة المضادة الأولى هذه من قبل.

خمسة أصبحت ستة؛ وذلك عندما اُكتُشِف البيون (بي ميزون) الذي يجعل النواة متماسكةً، وهو الجسيم الذي تنبأ بوجوده يوكاوا هيديكي من قبل، لينضم الميوون بعد ذلك -الجسيم الأثقل من الإلكترون بـ (200) مرة-، رغم عده توأمًا له. من قام بترتيب ذلك؟ يتساءل الفيزيائي إيزيدور إسحق رابي، وذلك هو الجسيم السابع، وهو جسيم غير معقد؛ بل متوفر بكثرة.

بحلول ستينيات القرن الماضي اُكتشفت المئات من الجسيمات الأولية، وفي مكان الجدول الدوري المنظم بشكلٍ محكم، حلت لوائح طويلة من: الباريونات (الجسيمات الثقيلة مثل البروتونات والنيوترونات)، والميزونات مثل (بيونات يوكاوا)، واللبتونات (الجسيمات الخفيفة مثل الإلكترونات والنيوترينو)، وكل هذه اللوائح دون تنظيمٍ ولا مبادئ، تدلنا على الطريق.

انزلق النموذج المعياري عبر هذا الشق، ولم يكن وميض ذكاءٍ ظهر بين ليلة وضحاها، لقد كان النموذج نتيجة سلسلة من الاكتشافات قادها أشخاص بارعون في العلم منذ منتصف ستينيات القرن الماضي، إذ حولوا هذا المستنقع إلى نظرية بسيطة، تليها خمسة عقود من التجارب والتحسين النظري.

تأتي الكواركات في ستة أشكال مختلفة، نطلق عليها اسم النكهات، مثل المثلجات تمامًا، لكنها ليست باللذة نفسها، فعوضًا عن الفانيلا والشوكلاتة وغيرها، نجد في أنواعها: الكوارك العلوي (u)، والسفلي (d)، والخادع (c)، والغريب (s)، والفوقي (t)، والتحتي (b). قام في عام 1964م، كل من جيل مان، وجورج زفايج بتعليمنا الوصفة؛ وهي أن تمزج ثلاثة من الكواركات مهما كانت نكهتها؛ للحصول على باريون.

تتكون البروتونات من كواركين علويين، وكوارك سفلي مرتبطين معًا؛ وتتكون النيوترونات من كواركين سفليين وكوارك علوي واحد، ويمكنك للحصول على ميزون أن تختار كوارك واحد، وكوارك- مضاد.

أيضًا هناك البيون، الجسيم المكون من كوارك علوي أو سفلي مرتبط مع كوارك- مضاد علوي، أو كوارك- مضاد سفلي، وكل المواد التي تتكون منها حياتنا اليومية مصنوعة من كواركات علوية وسفلية، وكواركات مضادة وإلكترونات.

هل تظن أن الأمر بسيط هكذا؟ إذن فلتعلم؛ الأمر ليس بتلك البساطة، فإبقاء تلك الكواركات مرتبطةً ببعضها بعضًا ليس بالأمر السهل، فهي مرتبطة بقوة كبيرة، لدرجة أنك لن تجد أبدًا كواركًا، أو كواركًا مضادًا بمفرده، ونظرية ذلك الترابط، والجسيمات التي تسمى الغلونات المتسببة بها؛ تسمى بالديناميكا اللونية الكمية.

تمتلك تلك النظرية أهميةً جوهريةً في النموذج المعياري، لكنها صعبة رياضيًا، حتى أنها تُعد بصفتها إشكاليةً غير محلولة في الرياضيات القاعدية. يُعد (نموذج اللبتونات) من الجوانب الأخرى للنموذج المعياري، فقد ظهر المصطلح لأول مرة في ورقة علمية لـ (ستيفن وينبرغ) عام 1967م، وهو ما سمح بدمج كل من ميكانيكا الكم، والأجزاء الجوهرية من المعرفة التي تخص طريقة تفاعل الجسيمات فيما بينها وتنظيمها، ضمن نظرية واحدة.

تضمن ذلك القوة الكهرومغناطيسية المعروفة عند الجميع، إضافةً إلى ما يسميه علماء الفيزياء بـ (القوة الضعيفة) التي تتسبب في اضمحلال إشعاعي معين، وقامت الفكرة بشرح أن كل ما ذكر هو عبارة عن جوانب مختلفة للقوة نفسها، وتضمن كذلك آليات هيغز لمنح الكتلة للجسيمات الأولية.

منذ ذاك الحين، تنبأ النموذج المعياري بنتائج تجربة تلو الأخرى، بما في ذلك اكتشاف العديد من أشكال الكواركات وبوزونات (W) و(Z)، وقد صُرف النظر عن إمكانية كون النيوترونات ليست عديمة الكتلة في ستينيات القرن الماضي، ووجدت الفكرة طريقها إلى النموذج المعياري في التسعينيات.

كان اكتشاف بوزون هيغز عام 2012م -المتوقع وجوده منذ زمنٍ بعيد في النموذج المعياري- مثيرًا، لكنه لم يكن مفاجئًا، لقد كان بمثابة انتصار جديد للنموذج المعياري. لقلقهم من عدم الحصول على تطلعاتهم المتوقعة من البساطة، ومن الاتساق الذاتي للنموذج رياضيًا، أو بحثًا عن ضرورة مستقبلية متوقعة لضم الجاذبية إلى النظرية، اقترح العلماء العديد من النظريات التي تجاوزت النموذج المعياري، وحملت تلك الأفكار أسماءً في غاية الحماس، مثل: (النظرية الموحدة الكبرى)، و(التناظر الفائق)، و(نظرية الأوتار).

وللأسف!، كل تلك الأفكار التي حاولت تجاوز النموذج القياسي، لم تتمكن حتى الآن من توقع أي ظاهرة تجريبية، أو أي تناقض تجريبي مع النموذج المعياري. بعد خمسة عقود، وبعيدًا كل البعد عن ضرورة إيجاد بديلٍ أو تحسين للنظرية، يستحق النموذج المعياري أن يُحتفى به بصفته نظرية رائعة لكل شيء -تقريبًا-.

اقرأ أيضًا:

قطة شرونجر ليست حكرًا على فيزياء الجسيمات

هل تكون فيزياء الجسيمات المدخل لنظرية كل شيء؟

المصدر

إعداد : وليد سايس.

تدقيق: أسماء العجوري.