شَكَّلت منطقة ما بين النهرين Mesopotamia، تلك الأراضي الساحرة الأسطورية، مركز الحكم والقيادة لحضارة فائقة القوة، هي الحضارة الأشورية الحديثة Neo-Assyrian Empire، التي كانت الأقوى في الفترة 912 -609 قبل الميلاد، واحتلت أراضٍ شاسعة في ما يعرف اليوم بسوريا والعراق.

في ذروة مجدها، امتدت الحضارة الأشورية من ضفاف المتوسط ومصر غربًا حتى الخليج الفارسي وإيران شرقًا، لكن في تحول مفاجئ لم يستغرق سوى عدة عقود، بدايةً من سنة 650 قبل الميلاد، انحسرت تلك الحضارة تدريجيًّا، حتى انتهى بها المطاف إلى انهيار تام، فما السبب؟

أرجعت العديد من النظريات ذلك الانحدار إلى عدة عوامل، منها التوسع المتزايد والحروب الأهلية والقلاقل السياسية، وهزيمة الجيش الأشوري على يد تحالف من القوات البابلية والمتوسطية سنة 612 قبل الميلاد.

حيّر لغز هزيمة الجيش الامبراطوري الأشوري علماء التاريخ والآثار لأكثر من 100 عام، إذ كيف استطاع جيش صغير أن يهزم الجيش الأقوى في العالم في ذلك الوقت؟

ألقى البحث الجديد المنشور في مجلة Science Advances الضوء على حل هذا اللغز. كلمة السر هنا هي السيف ذو الحدين: التغير المناخي، الذي رفع الحضارة الأشورية إلى عنان السماء ثم هوى بها من حالق.

من القمة إلى القاع

كانت الدولة الأشورية الحديثة قوةً جبارة، امتلكت إلى جانب القوة الاقتصادية جيشًا مجهزًا بالفرسان والعربات والأسلحة الحديدية، وعلى مدار قرنين من الزمان، شن الأشوريون حملات عسكرية لا هوادة فيها على القوى الإقليمية الرئيسية في محيطهم وفي الشرق الأوسط، إذ سعى كل ملك إلى سطوع نجمه ليتميز عن سلفه.

حكم أشوربانيبال Ashurbanipal آخر ملوك الأشوريين العظام تلك الحضارة الواسعة من مدينة نينوى Nineveh، التي تقع بقاياها على جانبي نهر دجلة بالقرب من مدينة الموصل العراقية الآن، وكانت مدينةً مترامية الأطراف، مليئةً بالمعابد والقصور والحدائق الغناء التي تُروى بنظام ري من قنوات ومجار واسعة النطاق.

ثم اندثر كل ذلك في غضون سنوات، كيف؟

كيف كان المناخ منذ 2600 سنة؟

لفهم أنماط سقوط المطر في شمال بلاد ما بين النهرين، ألقينا نظرةً على كهف كونا با Kuna Ba cave، بالقرب من مدينة نينوى.

جُمعت عينات من الرواسب الكلسية أو الصواعد stalagmites مخروطية الشكل، المتجهة إلى أعلى من أرضية الكهف. تتراكم هذه الرواسب ببطء من أسفل إلى أعلى مع تساقط مياه المطر من سقف الكهف، ما يراكم المعادن المتحللة.

تحتوي مياه الأمطار طبيعيًّا على نظائر خفيفة وثقيلة من الأكسجين، وهي ذرات لها عدد مختلف من النيوترونات، وتُعَد هذه الاختلافات الطفيفة في نسب نظائر الأكسجين مؤشرات حساسة للظروف المناخية وقت سقوط الأمطار. ومع نمو الترسبات الكلسية، تحتفظ في هياكلها بنسب نظائر الأكسجين في مياه الأمطار التي تسربت إلى الكهف.

بعد جهد شديد، جمع العلماء أجزاء التاريخ المناخي لشمال بلاد ما بين النهرين، بتحليل حلقات نمو الترسبات الكلسية، بطريقة مشابهة لحلقات الأشجار التي تدلنا على أعمارها.

طبقات الترسبات الكلسية تسجل الظروف المناخية وقت حدوثها

طبقات الترسبات الكلسية تسجل الظروف المناخية وقت حدوثها

وبقياس نسب نظائر الأوكسجين في كل عينة، أمكن بناء تسلسل زمني للتغير المناخي، واستطعنا بذلك معرفة تسلسل الأحداث، لكن دون تحديد الفترة الزمنية التي استغرقتها تلك الأحداث.

لحسن الحظ، خزنت تلك الترسبات الكلسية اليورانيوم أيضًا، ذلك العنصر الموجود دائمًا في المياه المتسللة إلى التكلسات، والذي يتحلل بمعدلات يمكن توقعها إلى عنصر الثوريوم thorium، ما ساعد الخبراء على وضع قياسات عالية الدقة لليورانيوم المتحلل في طبقات الترسبات الكلسية.

باستخدام هذين النوعين من القياسات، تمكنًّا من تأريخ السجل المناخي والسنوات المصاحبة له بدقة.

فترة غزيرة الأمطار، تلاها جفاف شديد

يمكننا الآن مقارنة التغير المناخي مُسجَّلًا على الترسبات الكلسية بالسجلات التاريخية والأثرية لتلك المنطقة، وبذلك وضعنا الأحداث المحورية في تاريخ الدولة الأشورية الحديثة في سياق التغير المناخي.

وجدنا أن مرحلة التوسع الكبير للدولة الأشورية الحديثة وقع في فترة زمنية تقدر بقرنين، فيهما كان المناخ مطيرًا بدرجة غير مسبوقة، مقارنةً بالـ4000 سنة السابقة لتلك الحقبة، والتي سُميَّت بحقبة الأمطار الشديدة megapluvial period، تبعها مباشرةً حقبة من الجفاف الشديد أيضًا، من أوائل القرن السابع قبل الميلاد حتى منتصف القرن نفسه.

تشبه تلك الفترة الجافة الفترة الحالية من الجفاف التي يعيشها العراق وسوريا، ولكن تلك الحقبة القديمة امتدت لقرون، وانهارت فيها الحضارة الأشورية الحديثة.

دليل جديد على تسبب التغير المناخي في اندثار الحضارة الأشورية - ما هو السبب في انتهاء الحضارة الأشورية - كيف قضى الآشوريون

يجب أن نضع في الحسبان أن تلك العلاقة لا تفترض السببية، بمعنى إنها ليست بالضرورة السبب المباشر في سقوط الدولة الأشورية، ولكن بالتأكيد كان لها تأثير.

مع التوسع الكبير للدولة الأشورية في عقودها الأخيرة، كان قلبها النابض منحصرًا في منطقة جغرافية صغيرة في شمال ما بين النهرين، كانت المصدر الرئيسي للعائدات الزراعية وإمدادات الجيش الأشوري، وازدهرت تلك المنطقة -شبه القاحلة في العادة- زهاء قرنين، بفضل الأمطار الغزيرة، ما سمح بازدهار الزراعة وتغذية الاقتصاد الأشوري.

أيضًا لعب المناخ دور المحفز لبناء شبكة من المستوطنات الحضرية والريفية في المناطق غير المستقرة التي لم تمارس الزراعة من قبل، وأظهرت البيانات أن تلك الفترة المطيرة انتهت فجأة، ووقعت المنطقة في قبضة موجات الجفاف المتتالية، ما أدى إلى نقص المحاصيل الزراعية، وتزامن ذلك مع الاضطرابات السياسية في الدولة الأشورية التي أضعفت اقتصادها، وقوّت شوكة الدول المنافسة.

مناخ غير مستقر يعني تنمية غير مستدامة

ضربت موجات جفاف، هي الأعنف في الخمسين سنة الماضية، الأجزاء الشمالية من العراق وسوريا، في نفس المنطقة التي كانت مهد الحضارة الأشورية القديمة، ما أدى إلى فشل ذريع في إنتاج المحاصيل عامي 2007 و2008، وأعطانا لمحةً عما قاساه الأشوريون في منتصف القرن السابع قبل الميلاد، وكيف يمكن أن تؤثر موجات الجفاف على مجتمعاتنا اليوم.

نمتلك اليوم في القرن الحادي والعشرين ما افتقر إليه الأشوريون، من البيانات والقدرة على التوقع، ونعرف أن التنمية غير المستدامة في مناطق تعاني شح المياه والقلاقل السياسية هي وصفات مجربة للكوارث.

اقرأ أيضًا:

يريد العلماء صنع خريطة ثلاثية الأبعاد للعالم بأكمله قبل أن يخربه التغير المناخي

هل تظن أن التغير المناخي ليس أمرًا عاجلًا؟ انظر لما أحدثه بسواحل أستراليا

ترجمة: أحمد جمال

تدقيق: سلمى عفش

مراجعة: أكرم محيي الدين

المصدر