لحسن الحظ، فإن السمت العام لأكثر الناس هو الصدق والصراحة في حديثهم. نحن نُفضل سماع الحقيقة من الآخرين، ونحاول كذلك تقديم الحقيقة لهم عمومًا. يُعَد التواصل الصادق أساسًا للحوارات والعلاقات الاجتماعية. دون الصدق يكون التواصل بلا معنى، وتكون الحوارات الاجتماعية عديمة الفائدة. ورغم ميلنا إلى الصدق، يكذب أكثرنا أحيانًا. لكن لسنا جميعًا على قدم المساواة.

نعم، معظمنا يكذب، لكن البعض يكذب أكثر من اللازم!

عندما تسأل الناس: «من يكذب؟»، فإن الإجابة ستكون غالبًا: «الجميع». قد لا يكون ذلك صحيحًا تمامًا، لكنه قريب جدًّا من الواقع.

لا يكذب بعض الناس على الإطلاق، مثل الأطفال الصغار جدًّا. حتى عمر عامين يكون الأطفال صادقين بدرجة استثنائية، ومع تقدمهم في العمر يبدأ المجتمع بصقل مهاراتهم الخداعية، ويتعلمون الكذب.

لماذا يكذب بعض الناس أكثر من اللازم؟ - الحوارات الاجتماعية عديمة الفائدة - نقص في تقدير الذات - ارتباط عدد الكذبات التي يرويها المرء بموقفه من عدم الأمانة

يتعلم الأطفال الخداع بحذر أكبر، ويتخذون عادةً نمطًا من استخدام الخداع في أوقات متفرقة، ويستبْقون الكذب للمواقف المهمة استراتيجيًّا. تبلغ حدة الكذب ذروتها في سن المراهقة، ثم تنخفض مع بلوغ سن الرشد، ووصولًا إلى الشيخوخة. لذلك يكذب المراهقون كثيرًا مقارنةً بالفئات العمرية الأخرى. لكن بعيدًا عن الفئات العمرية، يميل بعض الناس إلى الكذب أكثر من سواهم.

في التسعينيات، أُجريت سلسلة من الدراسات طُلب فيها من المشاركين الاحتفاظ بمذكرات جميع المحادثات التي أجروها على مدار أسبوعين. طُلب من المشاركين أن يسجلوا كذباتهم في المذكرات. كانت النتيجة هي الإبلاغ عن كذبتين يوميًّا في المتوسط. قد يكون هذا الرقم مضللًا بعض الشيء، لأنه يشير إلى أننا جميعًا ربما نكذب بضع كذبات يوميًّا.

لكن يشير تحليل أحدث لهذه المذكرات إلى أنه في حين كان المتوسط كذبتين يوميًّا لكل شخص، لم تكن الكذبات موزعةً بالتساوي. لم يتفوه أكثر الناس بأي أكاذيب، ولا واحدة! في حين تفوه عدد أقل من الناس بمعظم الكذبات. يبدو أن معظمنا صادق إلى حد ما، لكن يوجد قلة تسبب خيانة هذه الأمانة في مجتمعنا.

يتبع هذا النمط من توزيع الأفراد الكاذبين ما يُعرف بمبدأ باريتو Pareto principle، أو قانون القلة الحيوية the law of the vital few. باختصار، يشير هذا المبدأ إلى أن 20% من الناس يمثلون 80% من سلوك ما. مثلًا، عندما يتعلق الأمر باستهلاك الكحول في الولايات المتحدة، فإن نسبة 80% من الأشخاص يشربون مشروبًا كحوليًّا واحدًا في الأسبوع في المتوسط، في حين يستهلك الـ20% الباقين 45 مشروبًا في الأسبوع. أي أن (القلة الحيوية) تمثل أكثر سلوك شرب الكحول.

وبالمثل يتبع الكذب نمطًا مشابهًا. ففي دراسة حديثة، أبلغ 60% من الأشخاص عن عدم وجود أي أكاذيب في اليوم العادي، في حين أبلغ 25% عن كذبة واحدة أو اثنتين في اليوم.

لذلك، يبدو أن 85% من الناس صادقون تمامًا. ومع ذلك، فقد أبلغت مجموعة فرعية صغيرة (نحو 1%) عن أكثر من 20 كذبة في اليوم الواحد! وتكررت هذه النتيجة في دراسة أخرى. يبدو أن مجموعة صغيرة نسبيًّا من الناس في مجتمعنا هي المسؤولة عن أكثر الكذب وخيانة الأمانة.

إذن من هم كثيرو الكذب هؤلاء؟ وجدت إحدى الدراسات أن الأشخاص الذين يتمتعون بدرجة عالية من الميكيافيلية (من يتلاعبون بالآخرين وغير عاطفيين ولا يبالون بالأخلاق) يميلون إلى قول أكاذيب أكثر بكثير من سواهم.

ووجدت دراسة أخرى أن كثيري الكذب يميلون إلى أن يكونوا أشخاصًا لديهم نقص في تقدير الذات. درس الباحثون مسألة ارتباط عدد الكذبات التي يرويها المرء بموقفه من عدم الأمانة، ووجدوا أن الأشخاص الذين يميلون إلى اعتبار الكذب سلوكًا مقبولًا في ثقافتنا، يميلون إلى أن يكونوا أكثر كذبًا.

درس الباحثون العوامل الديموغرافية لهؤلاء، فوجدوا أن كثيري الكذب يكونون غالبًا رجالًا لا نساء، ويميلون إلى أن يكونوا من البالغين الأصغر سنًّا، ويشغلون نسبيًّا وظائف رفيعة المستوى. وبمزيد من التدقيق وُجد أن أكثرهم يعملون في مجالات الأعمال والتكنولوجيا.

أكثر هؤلاء الكذابين لا يفلتون دائمًا بأفعالهم. وجد الباحثون أنه المرجح أن تنتهي علاقاتهم العاطفية بسبب الخيانة، وهم أيضًا أكثر عرضةً للتوبيخ أو الفصل من وظائفهم بسبب خداعهم. ولعل هذه العواقب الوخيمة تساعد على تقليل عدد الكاذبين في مجتمعنا.

اقرأ أيضًا:

هل من الخطأ الكذب دائما ؟

دراسة تجد ارتباطا بين استخدام الالفاظ البذيئة و الصدق

ترجمة: جعفر قيس

تدقيق: رزوق النجار

مراجعة: أكرم محيي الدين

المصدر