لماذا يدافع كُثرٌ عن آرائهم ومعتقداتهم بقوة حتى إذا قُدِّمت لهم أدلة واضحة على أن أفكارهم ورؤياهم خاطئة تمامًا؟ من ضمن التفسيرات الشائعة لهذه الظاهرة هو الإدراك المتنافر.

الإدراك هو التفكير والمنطق ببساطة، إنه العملية العقلية للحصول على المعرفة والفهم من طريق التفكير والمنطق وتحليل المعلومات والخبرة. التنافر هو مصطلح موسيقي ويعني نقص الانسجام بين النوتات الموسيقية، لكنه يعني أيضًا التوتر والصدام الناتجين من عدم الانسجام أو تعارض المكونات.

يُعرَّف الإدراك المتنافر في علم النفس على أنه الانزعاج العقلي لشخص يملك معتقدين متناقضين أو أفكارًا أو قيمًا متناقضة. يُثار هذا الانزعاج عندما يجد الشخص نفسه في صدام مع دليل جديد يتناقض مع معتقداته. يُغيّر هذا الشخص رأيه أو سلوكه أمام هذا التناقض كي يقلل هذا الانزعاج؛ وهكذا يستعيد توازنه العقلي وانسجام مشاعره، يُسمى هذا الإدراك المنسجم.

لذا، يُقلل الناس الإدراك المتنافر ليوازنوا بين معتقداتهم وأفعالهم؛ بهذه الطريقة يحافظون على الاتساق النفسي والشعور بتوتر أقل. كان ليون فيستينجر أول من وصف هذه الظاهرة عام 1957، ساعد هذا على فهم: لماذا يدافع كثيرٌ من الناس بقوة ويعذرون ويسوّغون معتقداتهم المقدسة معاندين أدلة حتمية لا تقبل الجدل على أن ما يعتقدونه خاطئ؟

لماذا يصر كثيرون على ألا يغيروا وجهات نظرهم - المعرفة والفهم من طريق التفكير والمنطق - رفض ما يتعارض مع معتقداتنا - الإدراك المتنافر

يستخدم الناس طرائق كثيرة لإنقاص شعورهم بالتوتر عند تصادم سلوكهم مع ما يُتاح لهم من معلومات، يُسمى ذلك في علم النفس «تقليل التنافر». هذا مثال عن شخص يريد أن يفقد الوزن ويتناول طعامًا صحيًّا، مع ذلك يتناول البسكويت المليء بالسعرات الحرارية، والدهون غير المُشبَّعة والسكر. لتقليل التنافر، يستطيع هذا الشخص أن:

1. يُغير سلوكه أو معتقده بما يطابق المعلومات الجديدة. مثال على ذلك: «سأتوقف عن أكل البسكويت؛ لأنه مليء بالسكر والدهون غير الصحية ولن يساعدني هذا على فقدان الوزن».

2. يُسوّغ سلوكه أو معتقده بتغيير الإدراك المتضارب؛ «مسموح لي أن أتناول بسكويتة بين الحين والآخر».

3. يُسوّغ سلوكه أو معتقده بإضافة معلومات جديدة؛ «سأذهب إلى صالة الرياضة لأحرق البسكويت الذي تناولته».

4. يُنكر أو يتجاهل ما يتنافر مع معتقداته؛ «هذا البسكويت لا يحتوي على أي مواد مُضرة أصلًا».

مثال حالي على ذلك وجود دليل لا جدال فيه على كذب الرئيس الأمريكي دونالد ترامب وإقدامه على الغش والسرقة وجرائم خطيرة أخرى يواجه صاحبها عقوبة سجن مشددة؛ بل ونفّذ سياسات تضر بمنتخبيه. يدافع كثيرٌ من منتخبيه عن اختيارهم رغم وجود كم هائل من المعلومات الموثوقة التي تُدينه منذ توليه منصب الرئاسة في نوفمبر 2016. وربما كان ظهور هذه المعلومات من قبل سيجعل بعض المنتخبين يمتنعون عن انتخابه.

عمليًا، هكذا قلل منتخبو ترامب الإدراك المتنافر عندما وُوجهوا بحقائق مُربِكة عنه:

  1.  غيروا سلوكهم أو معتقدهم بدمج ما حصلوا عليه من معلومات متضاربة بنظرتهم إلى العالم، مثل: «لن ندعم القيادة الحالية، وسنصوِّت لشخص مختلف في الانتخابات القادمة».
  2.  سوّغوا سلوكهم أو معتقدهم بتغيير الفِكر المتضارب؛ «يبذل الرئيس أفضل ما يمكنه تجاه البلاد وهو ضحية للصيادين السياسيين».
  3.  سوّغوا سلوكهم أو معتقدهم بإضافة فِكر جديد؛ «إن الرئيس رجل أعمال ناجح جدًا؛ لذا فهو يعلم جيدًا ماذا يفعل. لا بد من أن ذكاءه الشديد يمنع كُثرًا من فهمه».
  4.  تجاهلوا أو رفضوا ما يتعارض مع معتقداتهم؛ «كل ما نراه أخبار كاذبة، لا يمكن أن نُصدق هذا الهراء».

خلاصة القول: عندما نواجه تضاربًا بين موقفنا من شيء وسلوكنا نحوه، نميل إلى تغيير موقفنا ليُلائم سلوكنا لا سلوكنا ليُلائم الموقف. من المثالية غير الممكنة أن يتحول البشر إلى كائنات منطقية؛ يُعدِّلون معتقداتهم ومواقفهم وسلوكياتهم لتتناسب مع أي معلومة جديدة لا جدال فيها. لكن ليس هذا ما يحدث؛ ما زال كثيرٌ من الناس يؤمنون بأن الأرض مسطَّحة، أو أن عمرها لا يتجاوز 6500 عام، أو أن التطعيمات خطيرة، أو أن التطور كذبة، أو أن التغير المناخي خدعة.

للأسف، يرفض كُثرٌ تغيير نظرتهم إلى العالم بما يقدمه من معلومات حديثة تتعارض مع معتقداتهم العزيزة؛ يحاولون تقليص شعورهم بتنافر إدراكهم، بتسويغ ما يتعارض مع آرائهم أو بتغيير المعنى أو السلوك نحوها. لو كان العلم يفكر كهؤلاء لكنّا ما زلنا نعيش في كهوف ونموت في الثلاثين من العمر. وربما كان هذا أصلح لبيئة كوكبنا، لكن بالتأكيد ليس لنا نحن البشر.

تذكَّر: فَكِّر جيدًا واعمل جيدًا واشعر جيدًا وكُن جيدًا.

اقرأ أيضًا:

أشياء لا تعرفها عن نفسك: دوافعك ووجهة نظرك ومظهرك

لماذا ينخدع الناس بالأخبار العلمية الزائفة؟

ترجمة: علي المغربي

تدقيق: عون حدّاد

المصدر