وُلِد نيكولو مكيافيلي في فلورنسا الإيطالية في 3 مايو 1469 وتوفي في 21 يونيو 1527 م، وهو فيلسوف سياسي ورجل دولة ووزير إيطالي في الجمهورية الفلورنسية، عاش إبان عصر النهضة وأكسبه كتابه «الأمير» سمعة الملحد الكلبي (الهازئ بالأخلاق).

حياته المبكرة وعمله السياسي

كانت عائلة مكيافيلي من العائلات البارزة الغنية، المحتفظة بمراكز سياسية مرموقة في فلورنسا منذ القرن 13، وقد كان أبوه «برناردو» -الذي يُعد من أفراد العائلة الفقراء- أستاذًا في القانون، واضطر للعيش بتقشف لأنه كان ممنوعًا من فتح مكتب محاماة في فلورنسا بسبب تعسره في تسديد الديون، فكان يدير عقاره الصغير قرب المدينة، الذي لا يدر عليه إلا دخلًا ضئيلًا يزيده بممارسة مهنته سرًا.

كانت لبرناردو مكتبةً لا شك أن نيكولو قرأ كتبها، رغم أننا لا نعرف إلا القليل عن تعليمه وحياته المبكرة في فلورنسا، التي كانت آنذاك مركزًا فلسفيًّا مزدهرًا يزدحم بالفنانين وأعمالهم. ونعلم أن نيكولو شهد محاضرات مارسيلو أدرياني الذي ترأس ستوديو فيورنتينو، إضافةً إلى ذلك درس نيكولو اللاتينية جيدًا وربما تعلم بعض الإغريقية أيضًا، ويبدو أنه حصل على التعليم الإنساني القياسي الذي تتطلبه المناصب الحكومية الفلورنسية.

كتب نيكولو في رسالة أرسلها إلى صديق سنة 1498 أنه استمع إلى مواعظ جيرولامو سافونارولا (1452-1498) وهو راهب دومينيكي هاجر إلى فلورنسا سنة 1482 وتجمع حوله -بعد سنتين- حزب من المساندين الشعبيين تأثروا باتهاماته ضد الحكومة ورجال الدين والبابا نفسه، تلك الاتهامات التي لم يحاول تزيينها.

حكم سافونارولا فلورنسا عمليًا منذ سنة 1494 حتى إعدامه في 24 مايو 1498 شنقًا بتهمة الهرطقة ثم حُرِق جسده في الساحة العامة، وقد صوره نيكولو في كتابه الأمير بصورة النبي المسالم الذي حُكم عليه بالفشل منذ البداية، لكن ذلك لم يمنع نيكولو من الإعجاب بطريقة تعليم سافونارولا وبلاغته.

اشتهر نيكولو في التاسعة والعشرين من عمره حين أصبح رئيسًا للمكتب الثاني، وهو منصب يتولى صاحبه مسؤولية علاقات الجمهورية الخارجية في الأقاليم، ولا نعرف كيف أُتيح لشاب صغير السن أن يبلغ هذا المنصب المهم، خصوصًا مع غياب الخبرة اللازمة، وقد احتفط نيكولو بمنصبه الجديد حتى سنة 1512 بعد أن حاز ثقة بييرو سوديريني (1452-1522)، رئيس موظفي فلورنسا العموميين منذ 1502.

نيكولو مكيافيلي: سيرة شخصية - فيلسوف سياسي ورجل دولة ووزير إيطالي في الجمهورية الفلورنسية - فيلسوف مشهور من عصر النهضة - كتاب الأمير

من أعمال نيكولو مكيافيلي إبان خدمته في المكتب الثاني إقناعه رئيس الموظفين العموميين سوديريني بتقليل اعتماد المدينة على قوات المرتزقة، بتأسيس ميليشيا مسلحة (1505) عمل الأول على تنظيمها لاحقًا، ومن أعماله قيامه بالمهمات الدبلوماسية والعسكرية التي أُرسل من أجلها إلى البلاط الفرنسي وإلى تشيزري بورجا (1475-1507) ابن البابا ألكساندر السادس (1492-1503) وإلى خليفة الأخير البابا يوليوس الثاني (1503-1513) وإلى بلاط ملك الامبراطورية الرومانية المقدسة ماكسيميليان الأول (1493-1519) وإلى مدينة بيزا سنتي 1509 و1511 م.

كتب مكيافيلي عملًا قصيرًا بعد إتمام مهمته عند تشيزري بعام، وكان العمل بعنوان «حول طريقة التعامل مع الرعايا الفالديتشيانيين الثائرين»، وقارن فيه بين أخطاء فلورنسا وحكمة الرومان في التعامل مع الثوار، فأعلن أن الطريقة الصحيحة هي إما مساعدتهم أو سحقهم، وتلا ذلك عمل مكيافيلي اللاحق «محادثات حول ليفي» الذي علق فيه على ليفي المؤرخ الروماني القديم.

شهد مكيافيلي انتقام تشيزري الدموي من الضباط المتمردين في بلدة سينيغاغليا (31 ديسمبر 1502) أيضًا، وكتب عن ذلك فاشتهر تقريره، وقد جادل كثيرًا في كتاباته الأولى أن «على المرء ألا يهين أميرًا ثم يمنحه ثقته بعد ذلك».

أُرسل مكيافيلي إلى روما سنة 1503 وظل هناك مدة اجتماع مجلس الكرادلة الذي انتخب البابا يوليوس الثاني، وهو عدو للبورجيين، وكان تشيزري بورجا قد دعم الانتخابات دعمًا يفتقر إلى الحكمة، ثم شاهد مكيافيلي اضمحلال شأن تشيزري فوصف الأمر في قصيدة تذكر سجنه بأنه «يستحق هذا العبء، لأنه ثار على المسيح». والخلاصة أن مكيافيلي قام بأكثر من أربعين مهمة دبلوماسية خلال سنواته الأربع عشرة التي قضاها في المكتب الثاني.

شهدت سنة 1512 سقوط الجمهورية الفلورنسية وخلع الجيش الإسباني رئيس الموظفين العموميين بعد أن جند البابا يوليوس الثاني هذا الجيش في حلفه المقدس، وعاد آل ميديتشي لحكم فلورنسا، فسُجن مكيافيلي وعُذِّب، إذ شكوا في تآمره، ثم نُفي سنة 1513 إلى عقار أبيه الصغير في سان كاشيانو جنوب فلورنسا، وهناك كتب مكيافيلي عمليه الرئيسيين اللذين نُشرا بعد موته: الأمير ومحادثات حول ليفي، فأهدى «الأمير» إلى لورينزو دي بييرو دي ميديتشي (1492-1519) الذي حكم فلورنسا منذ 1513 وهو حفيد لورينزو دي ميديتشي (1449-1492).

تولى الكاردينال غيولو دي ميديتشي (1478-1534) حكم فلورنسا بعد موت لورينزو، فقدم إليه مكيافيلي «لورينزو ستروزي» (1488-1538)، وهو سليل إحدى أغنى عائلات فلورنسا، وقد أهدى إليه مكيافيلي حواريته «فن الحرب» التي كتبها سنة 1521.

وظف الكاردينال «غيولو» مكيافيلي سنة 1520 ليحل مشكلة إفلاس مدينة لوكا، واستغل الأخير الفرصة فكتب مسودة عن حكومتها وألّف كتابه «حياة كاستروتشيو كاستراكاني»، ولاحقًا وافق الكاردينال على تعيين مكيافيلي مؤرخًا رسميًّا للجمهورية، فتسلم منصبه في نوفمبر 1520 براتب قدره 57 فلورينًا ذهبيًّا في السنة، ارتفع بعدها إلى 100 فلورين ذهبي.

في نفس الوقت، كلف البابا ليو العاشر (1513-1521) -وهو من آل ميديتشي أيضًا- مكيافيلي بكتابة خطاب عن تنظيم الحكومة في فلورنسا، فانتقد الأخير كِلا الحكومتين: نظام آل ميديتشي والجمهورية التي خدمها مكيافيلي نفسه. ونصح البابا بجرأة أن يعيد تنصيب الجمهورية القديمة بدلًا من الخليط المتزعزع المكون من الجمهورية والإمارة، وهو النظام الهجين الذي حكم فلورنسا حينها.

أُرسِل نيكولو مكيافيلي في مايو 1521 مدة أسبوعين إلى رهبانية الفرانسيسكان في كابري، فحسن هناك قدرته على عقلانية الصمت، وواجه معضلة كيفية قول الحقيقة حول صعود الميديتشيين إلى السلطة في فلورنسا دون أن يهين راعيه الميديتشي.

توفي البابا ليو العاشر سنة 1521، فمال سيد فلورنسا الوحيد الكاردينال غيوليو إلى إصلاح حكومة المدينة، وطلب نصيحة مكيافيلي، الذي أجاب بنفس مقترحه المقدم من قبل إلى البابا ليو العاشر، وبعد عامين توفي البابا أدريان السادس وأصبح الكاردينال غيوليو هو البابا الجديد باسم «كليمنت السابع»، أما مكيافيلي فقد عكف بحماس على كتابة تاريخ فلورنسا الرسمي.

قدّم نيكولو مكيافيلي «التاريخ الفلورنسي» إلى البابا في يونيو 1525 فقدم له الأخير مكافأة قدرها 120 دوكاتًا، وفي أبريل 1526 عُيّن مكيافيلي في منصب «حامي الأسوار»، أي أنه أصبح الرئيس المشرف على تحصينات فلورنسا، وكان البابا قد شكّل حلفًا مقدسًا في بلدة كونياك ضد رأس الإمبراطورية الرومانية المقدسة «تشارلز الخامس» (1519-1556)، فغادر مكيافيلي مع الجيش لينضم إلى صديقه فرانتشيسكو غويتشارديني (1482-1540) وهو ضابط في جيش البابا، وبقي مكيافيلي مع غويتشارديني حتى انتهت الحرب بسقوط روما في يد قوات الإمبراطور في مايو 1527.

خلعت فلورنسا آل ميديتشي فأمل مكيافيلي في عودته إلى منصبه القديم، لكن منعه شك أنصار الجمهورية الحرة فيه إذ تذكروا الأفضال القليلة التي قدمها آل ميديتشي إليه سابقًا، ولما حُرم منصبه القديم سقط مكيافيلي مريضًا وتوفي بعد شهر.

إرث نيكولو مكيافيلي

ينقسم إرث مكيافيلي إلى قسمين: ما أُخِذ عنه ويحمل اسمه، وما نقله عنه الآخرون دون ذكر اسمه. لا يتضمن القسم الأول إلا القليل، إذ حمل اسم مكيافيلي سمعةً سيئةً، فلم تكن المكيافيلية محمودة الذكر، حتى أن أحد الأشرار في مسرحية شكسبير «هنري السادس» ادعى أنه تفوق على «مكيافيلي السفاح».

وُضعت أعمال مكيافيلي على «قائمة الكتب المحرمة» التي صيغت أولًا سنة 1564 بسبب لا أخلاقيتها وهجومها على الكنيسة، لكن كل الفلاسفة المجددين قرأوا أعماله، وتجرأ القليل منهم فقط على الدفاع عنه، فتحدث الفيلسوف والمحامي الإنكليزي فرانسيس بيكون (1561-1626) عن مكيافيلي في «المقالات أو المستشارون، المدنية والأخلاقية» (1625) مشيرًا إلى جرأته، وتحدث الفيلسوف السياسي الإنكليزي جيمس هارينغتون (1611-1677) بإعجاب عن مكيافيلي بوصفه «أمير السياسة» في «مجتمع المصلحة العامة في أوشينا» (1656)، ودافع الفيلسوف اليهودي الهولندي بينيدكت السبينوزي (1632-1677) عن نوايا مكيافيلي الصالحة في تعليم الطغاة كيفية اكتساب القوة، وادعى في «الأطروحة السياسية» (1677) أن مكيافيلي كان مناصرًا للجمهورية، وقال نفس ما قاله الفيلسوف الفرنسي جان جاك روسو (1712-1778) في كتابه «العقد الاجتماعي» (1762)، إذ أكد أن مكيافيلي كان -على عكس الظاهر- «رجلًا صادقًا ومواطنًا صالحًا» وأن كتابه الأمير كان كتابًا «مناصرًا للجمهورية».

إن التفسيرات الجمهورية المعاصرة التي نُسبت إلى مكيافيلي قدمته بديلًا اجتماعيًا لليبرالية الانتهازية رغم سمعته الشريرة، لكن التأثير الأقوى كان تأثير مكيافيلي في المفكرين الذين تجنبوا ذكر اسمه، بل إن بعضهم استعمل تعاليمه، في حين لم يتورع عن الهجوم على شخصه، ومن هؤلاء الباحث والفيلسوف الإيطالي جيوفاني بوتيرو (1540-1617)، الذي كان من أول من أسسوا لفكرة إعفاء الدولة من القيود الأخلاقية، وبدأ المؤلفون -طلبًا للسلامة- يقتبسون مقاطع من كتابات المؤرخ الروماني تاسيتُس (56-120 م)، ولم يكن الأمر ليختلف كثيرًا لو اقتبسوا من مكيافيلي، وأعطاهم اقتباسهم من تاسيتس تسمية «التاسيتيين».

لكن تأثير نيكولو مكيافيلي الأساسي والأعظم على الإطلاق هو ما نسبه إليه بوركهارت وستراوس بوصفه مؤسس الحداثة، رغم أن مكيافيلي نفسه احتقر المحدثين في زمانه ورأى فيهم ضعفًا بينًا، وإن لم ينف احتمالية وجود «الجمهورية الخالدة» التي ستعالج هذا الضعف وتصلح أخطاء الرومان، فتؤسس نظامًا سياسيًا محصنًا ضد التقلبات العشوائية.

لم يتبع مكيافيلي نهجًا علميًا حديثًا، لكنه قدم الفكرة البيكونية (نسبةً إلى فرانسيس بيكون) عن قهر الطبيعة والمصادفة لصالح الإنسانية، ويتطابق هذا مع المفاهيم الحديثة حول التقدم الذي لا رجعة فيه، والعلمانية، وتحقيق المصلحة العامة بطلب المصلحة الخاصة.

ما زال طموح مكيافيلي محل جدل: هل كان عظيمًا كالمذكور سابقًا أم لا؟ لكن الجميع يتفق على عظمة مكيافيلي، وعلى إبداعه ودقة تفكيره وبهاء أسلوبه.

اقرأ أيضًا:

عائلة ميديتشي: معلومات وحقائق

جون لوك: معلومات وحقائق

ترجمة: الحسين الطاهر

تدقيق: رزوق النجار

مراجعة: أكرم محيي الدين

المصدر