تقف وسائل التواصل الاجتماعي إلى جانب كل من الذكاء الاصطناعي وموروثاتنا الخاصة على قائمة أكثر العوامل تأثيرًا في إرادتنا وسلوكنا ، ما يُعيد طرح أكثر الأسئلة قِدمًا: هل نملك إرادةً حرة؟

لنفرض مثلًا أنك تريد فعل شيء بسيط، كتحريك سبابتك قليلًا نحو اليسار؛ أنت حر في اختيار ذلك وعدمه، ستفكّر قليلًا، ثم تقرر تحريكها.

هذا مثال بسيط عن حرية الإرادة؛ تافه بعض الشيء في الحقيقة، فلا شيء يقف مصيره على حركة إصبعك الصغير. لكن ماذا لو كان كذلك فعلًا؟ تخيل لو أن أحدهم سيُعدَم إنْ حركت إصبعك هذا؛ عندها سيحمل اختيارك مسؤوليةً أخلاقيةً، لأنك حركته عن قصد!

لا شك لدينا أبدًا ضمن حياتنا اليومية في امتلاكنا حرية الإرادة، لكن سل عالمًا أو فيلسوفًا وغالبًا سيقول لك إنها ليست موجودة؛ إنها وهم!

يبدأ هذا الجدال أساسًا من كون فكرة حرية الإرادة تتناقض مع فكرة الحتمية، وهي نظرة سادت التفكير العلمي في الماضي وما زالت مؤثرةً حتى الآن.

قد لا نستطيع فهم الإرادة الحرة بطريقة علمية.. إليك السبب - فكرة حرية الإرادة تتناقض مع فكرة الحتمية - فهم حرية الإرادة بطريقة تتعايش فيها مع مبدأ الحتمية

هل كل شيء محدد مسبقًا؟

تعني الحتمية أن كل شيء يحدث الآن مقدر له الحدوث بسبب عوامل حُدِّدت في الماضي حتى قبل ولادتك.

قد تكون هذه العوامل طريقة تربيتك ونشأتك أو ثقافتك الخاصة والمحيطة بك، أو قد تكون حالة الكون الأساسية وقت ولادتك والقوانين الكونية الحاكمة له. أيًّا كانت هذه العوامل، فالمؤكد أنك لست من يحددها. وفي حال أثرت في سلوكك، فأنت عندها لا تملك حرية الإرادة.

في كتابه «مقالة حول حرية الإرادة»، أحْسَنَ الفيلسوف الأمريكي بيتر فان إنفانغ وصف الفكرة السابقة بقوله: إن كانت الحتمية صحيحة، فقوانين الطبيعة مجتمعة مع الماضي ستضمن حتمًا تحريكك لإصبعك. لكن إن كانت لديك القدرة على اختيارك عدم تحريكه، نستنتج أنك تملك القوة على تغيير قوانين الطبيعة أو الماضي أو كليهما!

بالطبع هذا أمر سخيف، فأنت لا تملك مثل هذه القوى.

نعلم أن الحتمية كانت مهمةً في الماضي، لكن حديثًا مع تطور العلم لا تبدو أنها النظرة الصحيحة إلى الكون.

تنص فيزياء الكم على أن حدوث بعض الظواهر الفزيائية يكون عشوائيًّا تمامًا بكل ما تحمله الكلمة من معنى. وهو مبدأ كانت قد استخدمته الجامعة الوطنية الأسترالية Australian National University لبناء مولد أرقام عشوائي إلكتروني.

لسوء الحظ، هذا فقط يعقّد الأمور. فلو كان تحريكك لإصبعك عملًا عشوائيًا، عندها لن تكون مسؤولًا، وهذا أبعد ما يكون عن حرية الإرادة.

لاختصار الأمور نستنتج أننا نملك أحد خيارين، إما أن الحتمية صحيحة، وعندها تكون أفعالنا هي نتيجة عوامل حُدِّدَت سابقًا في الماضي، من ثم لا نملك حرية الإرادة، وإما أن تكون الحتمية غير صحيحة، وأن العشوائية هي الغالبة على معظم أحداث حياتنا، بما فيها أفعالنا، ومع هذا الخيار أيضًا لن نجد مكان لحرية الإرادة.

أي كما قال الفيلسوف البريطاني غالن شتراوس في كتابه «أشياء تُؤْرقُني»، إن حرية الإرادة «مستحيلةٌ منطقيًا».

هل يوجد حل وسط؟

اتجه بعض الفلاسفة إلى فهم حرية الإرادة بطريقة تتعايش فيها مع مبدأ الحتمية، أي أنها تنطبق فقط على أفعالنا وليس من الضروري أن تشمل الكون بكليته.

طُور أحد معالم هذا الاتجاه من قبل الفيلسوفة فيكتوريا ماكغيير من الجامعة الأسترالية الوطنية. فقد تضمن تعريفها لحرية الإرادة تحميل البشر بعضهم مسؤولية أفعالهم الأخلاقية، فلا تُسوغ الجرائم بالحتمية المفروضة منذ الأزل.

ولكون مبدأ الحتمية يستطيع نظريًا فعل هذا، فعندها يمكن لحرية الإرادة والحتمية الوجود المشترك.

لكن مع استطاعة مبدأ الحتمية احتواء هذه القدرة الاجتماعية وتفسيرها، لن تمثل هذه القدرة حرية الإرادة، فالأخيرة تتعارض في جوهرها مع مبدأ الإجبار.

عند هذه المرحلة تبدو الأمور محبطة. لكن، يوجد شعاع صغير من الأمل أشار إليه الفيلسوف اللغوي الأمريكي نيوم تشومسكي، عندما قال:

«لا يمكننا بكل ببساطة التخلي عن الاعتقاد بامتلاكنا حرية الإرادة؛ إنها أكثر انطباعاتنا تجليًّا في الظواهر اليومية، ولا نستطيع تفسيرها. […] إذا كانت شيئًا نثق بحقيقته تمامًا ولا نملك تفسيرًا واضحًا له، فحظًا أوفر لأي محاولة تفسيرٍ أخری».

لنفرض مرةً أخرى أن الحتمية وحرية الإرادة لن تتوافقا في عالم واحد، وأنك لسوء حظك تعيش في هذا العالم؛ إذن، في حال حركت إصبعك بكل حرية إرادة تمتلكها وتشعر بها، ستكون هذه الحادثة أبعد ما يمكن عن الحتمية ولن يكون لحالة الكون الأساسية أو قوانينه دور في حدوثها أو منعها.

هل نستطيع القول عندها إن تحريكك لإصبعك كان حدثًا عشوائيًّا؟!

لا، لا نستطيع قول ذلك؛ فأن تقول إن حدثًا كان عشوائيًّا أمر مختلف تمامًا عن القول إنه غير حتمي أو غير مُقدَّر. توجد فسحة صغيرة منطقية تجلس بين العشوائية والحتمية، ولربما تعيش حرية الإرادة ضمن هذه الفسحة.

ما يقصده تشومسكي بقوله السابق هو أنه قد يكون مستحيلًا على البشر فهم حرية الإرادة. ففي كتابه «اللغة ومشكلات المعرفة» يشير إلى أنه:

ضمن العلم، يبني العلماء نماذج ونظريات للنظام الذي يحاولون فهمه. هذه النماذج إما أن تكون عشوائيةً وإما أن تكون حتميةً بطبيعتها ولا نملك خيارًا ثالثًا، ما يعني أننا قد لا نفهم حرية الإرادة ما دُمنا لا نملك نموذجًا علميًّا خاصًّا بها.

في النهاية، لا نعلم إن كان تشومسكي مُحقًّا في رأيه عن حدود المعرفة البشرية، لكننا نظن بأنه مُحقٌّ في الدفاع عن وجود حرية الإرادة، فتحريكُنا لإصبعنا بحرية، ليس أمرًا حتميًا ولا عشوائيًا، إنه خيار حقيقيٌّ حرٌ نشعر به في العمق من أنفسنا.

اقرأ أيضًا:

هل الإرادة الحرة موجودة في الكون؟ الجواب قد يكون لا

يعتقد العلماء أنهم وجدوا تشريح حرية الإرادة في أدمغتنا

حرية الإرادة بين الحقيقة والخيال

هل يمكن للعلماء معرفة قرارك قبل أن تعرفه أنت ؟!

ترجمة: يونس الجنيدي

تدقيق: عون حدّاد

مراجعة: آية فحماوي

المصدر