تسبب عقار ثاليدوميد في ظهور شذوذات وتشوهات خلقية جسدية لدى أكثر من عشرة آلاف وليد بين عامي 1957 و1962، ما قاد إلى سنّ قوانين أكثر صرامة بشأن قبول الأدوية واللقاحات الجديدة، واستمر تأثير هذه القوانين حتى اليوم.

بدأت القصة عام 1950 في ألمانيا الغربية عندما طوّر الباحثون في شركة كيمي جرونينثال الدوائية عقار ثاليدوميد، أو ما يسميه العلماء أكبر كارثة طبية صنعها الإنسان.

رخصت السلطات الطبية في ألمانيا الغربية في يوليو 1956 بيع الدواء دون وصفة، بوصفه عقارًا مسكنًا للآلام ومهدئًا عصبيًّا، وسرعان ما استُعمل في حالات مختلفة مثل الزكام والحمى وذات الرئة، وفي تخفيف الغثيان الصباحي المرافق لبداية الحمل. وفي غضون بضع سنوات، منحت شركة كيمي 14 شركة ترخيصًا لتسويق ثاليدوميد في 46 بلدًا حول العالم تحت 37 اسمًا تجاريًا مختلفًا.

الأمان المُطلق

سنة 1958، سوقت الدواء الشركة البريطانية ديستلرز بوصفه علاجًا للغثيان الصباحي تحت الاسم التجاري ديستافال، رغم عدم تجربته سريريًا على البشر.

وزعمت دعاية الشركة أنه يمكن صرف ديستافال بأمان تام للحوامل والمرضعات دون أخطار على الأم أو الوليد. اعتقدت الشركة -بناءً على اختبارات السُمية القياسية على الفئران- أن الجرعات العالية آمنة للبشر.

كان الطبيب الاسكتلندي د. ألكساندر ليزلي أول متخصص يناقش ادعاءات الشركة علانيةً، وأبلغ في رسالة كتبها سنة 1960 عن تطور أعراض عصبية حادة، وصفها بالشعور بوخز أو تنميل يشبه وخز الدبابيس في اليدين والقدمين لدى 4 من مرضاه المعالجين بثاليدوميد، وكتب: «توقف 3 مرضى عن تلقي ثاليدوميد بعد 2-3 أشهر، وقد تحسنت أعراضهم بدرجة ملحوظة وإن لم تزل تمامًا. ربما كانت تلك الأعراض تأثيرًا جانبيًا سُمّيًا لثاليدوميد».

بعد سنة، كتب د. ويليام مكبرايد طبيب النساء والتوليد، الذي شارك في نشر استخدام ثاليدوميد بوصفه علاجًا للغثيان الصباحي، رسالةً إلى مجلة ذا لانسيت الطبية واصفًا عدة تشوهات حادة لطفل من بين 5 مواليد لأمهات تناولن ثاليدوميد خلال الحمل.

كيف أسهمت فضيحة الثاليدوميد في إنتاج أدوية أكثر أمانًا - عقار ثاليدوميد - الشذوذات والتشوهات الخلقية الجسدية التي تسبب بظهورها عقار ثاليدوميد

أوقفت شركة كيمي توزيع الدواء محليًّا في 26 نوفمبر 1961 إثر تحقيقات فيدرالية بخصوص ازدياد مشابه للتشوهات الخلقية، بعد أكثر من 5 سنوات من طرح الدواء في الأسواق، تلا ذلك إيقاف التوزيع في المملكة المتحدة في 2 ديسمبر 1961.

وبحلول عام 1962، كان الدواء قد مُنع في أغلب البلدان التي بيع فيها. ووفقًا لموقع مجتمع ثاليدوميد في المملكة المتحدة، بقي الدواء في المخازن الطبية حول العالم مدةً طويلة بعد سحبه من الأسواق، لأنه كان مكونًا فعالًا في أدوية السعال للأطفال.

التطور الجنيني

يلاحظ المجتمع الطبي الآن أن ثاليدوميد يبدل -حال تناولته الحامل خلال مدة 20 – 37 يومًا من بداية الحمل- التطور الجنيني البشري. يسبب ثاليدوميد سلسلة كبيرة من التبدلات التطورية، وتعد فقمية الأطراف أكثرها شيوعًا، وهي تعني فقدان الأطراف أو قصرها. وقد يؤثر في تشكل اليدين والقدمين فتصبح بصورة مختلفة أو بدائية وغير مكتملة. ويؤثر أيضًا في تطور أعضاء مثل الدماغ والجهاز السمعي والعينين. وتقترح الإحصاءات أن الدواء قد سبب ما لا يقل عن 10000 حالة من التشوهات الخلقية الحادة، التي أدت خلال بضعة أشهر إلى موت نصف المواليد المصابين تقريبًا. وتوجد تقارير عن ارتفاع معدلات الإجهاض تزامنًا مع الاستخدام الواسع لثاليدوميد عالميًا.

لم تشهد الولايات المتحدة الأمريكية المعدلات ذاتها التي ظهرت في ألمانيا أو المملكة المتحدة، بفضل يقظة د. فرانس كلزي، إحدى المختصات في علم الأدوية في إدارة الغذاء والدواء الأمريكية. رفضت د. كلزي عام 1960 طلب شركة وليام. س. بيريل لتسويق ثاليدوميد تحت اسم كيفادون بوصفه عقارًا مسكنًا للألم، مشيرةً إلى غياب ما يبرهن أمان الدواء للبشر، ونبهت إلى أضراره العصبية.

غياب الرقابة

لم يتطلب الفحص السريري آنذاك رقابةً ولا قبولًا من إدارة الغذاء والدواء، إذ حتى لو توفرت نتائج المتابعات السريرية فإنها لم تكن مصادر موثوقة. وزعت الشركة في أمريكا مسبقًا دون إعلام إدارة الغذاء والدواء نحو 2.5 مليون حبة ثاليدوميد على الأطباء الذين صرفوها لنحو 20000 مريض، من بينهم 207 امرأة حامل. شارك في تلك الفحوص السريرية أكثر من ألف طبيب، إلا أن عددًا قليلًا منهم راقب تأثيرات الدواء في مرضاه. ووُلد آنذاك وفقًا لإدارة الغذاء والدواء 17 مولودًا بتشوهات خلقية ناجمة عن تناول ثاليدوميد.

قادت أزمة ثاليدوميد في أمريكا مباشرةً إلى إصلاحات قانونية. وأقر الكونجرس في أكتوبر 1962 تعديلات هاريس كيفوفير وصدق عليها الرئيس كيندي. طالبت التعديلات بأن توفر مصانع الدواء نتائج التجارب على الحيوانات والاختبارات شديدة التنظيم المطبقة على البشر، لإثبات أمان الدواء وفعاليته قبل إطلاقه في الأسواق.

الإصلاحات القانونية الرئيسية

عالجت تعديلات هاريس كيفوفير نقاط الضعف في القانون السابق، قانون الغذاء والدواء ومواد التجميل الذي سمح للمصانع بتسويق الأدوية حال لم تتخذ إدارة الغذاء والدواء قرارًا خلال 60 يومًا من الطلب. قالت د. مارغريت هامبورج في مقالة عن الإصلاحات: «لم تعد إدارة الغذاء والدواء بعد إقرارها التعديلات مؤسسةً عديمة الفائدة، تشاهد الأدوية غير المقبولة تتدفق إلى الصيدليات وإلى المرضى». طالبت التعديلات بتغييرات كثيرة منها:

  •  أن تثبت المصانع فعالية الدواء قبل تسويقه، والإبلاغ عن أي رد فعل عكسي.
  •  أن يعتمد هذا الإثبات على دراسات سريرية مقبولة ومضبوطة جيدًا بإشراف خبراء مؤهلين.
  •  الحصول على موافقات واعية من المشاركين بالدراسة.
  •  منح إدارة الغذاء والدواء 180 يومًا لرفض دواء جديد أو قبوله.
  •  السماح لإدارة الغذاء والدواء بتحديد ممارسات التصنيع الجيد وفرض الرقابة القانونية على مرافق الإنتاج.
  •  منح إدارة الغذاء والدواء سلطة التحكم بشؤون التسويق الإعلاني لأدوية الوصفات التي يجب أن تتضمن معلومات دقيقة عن التأثيرات الجانبية المحتملة.

في أثناء ذلك، حسَّنت العديد من الدول الطرق التصنيفية للتحكم في إيصال الدواء، مع الأخذ في الحسبان حقيقة توفر ثاليدوميد بوصفه دواءً لا يتطلب وصفة. مثلًا، أدى قانون الأدوية لعام 1968 في المملكة المتحدة إلى تمييز ثلاثة أنماط من الأدوية:

  •  أدوية يتطلب صرفها وصفة طبية.
  •  أدوية تُصرف دون وصفة لكنها متوفرة فقط في الصيدليات.
  •  أدوية تُصرف دون وصفة وتوجد في أي متجر.

الإبلاغ عن التأثيرات الجانبية

أسست المملكة المتحدة نظامًا خاصًا بالأطباء للإبلاغ عن التأثيرات الجانبية غير المسبوقة سُمي «مخطط البطاقة الصفراء». يسمح النظام الآن لأي شخص أن يبلغ عمّا يمكن عدّه تأثيرًا جانبيًا. وأنشأت إدارة الغذاء والدواء في أمريكا نظامًا مماثلًا سُمي «ميدووتش».

وألزمت الحكومة البريطانية الشركات بإجراء الفحوص السريرية التي تثبت أمان استخدام دواء ما خلال الحمل قبل وصوله إلى الحوامل. ولم يعد قبول الأدوية يعتمد على أساس تجريبها على الحيوانات، وذلك يعد تغييرًا رئيسيًا آخر.

تشير الاستجابة إلى الأزمة إلى أن الأنواع المختلفة تتفاعل مع الأدوية بطريقة مختلفة، ووجد العلماء أن الفئران التي جُرّب عليها الدواء تقليديًا كانت أقل حساسيةً تجاه تأثيرات الدواء من الأنواع الأخرى كالأرانب والرئيسيات غير البشرية. كتب البروفسور نيل فارجسون المختص بالبيولوجيا التطورية عن ثاليدوميد في صحيفة الجنين اليوم، موثقًا نتائج القوانين الجديدة لاختبار الأدوية: «لقد تغيرت سياسات مراقبة الأدوية بعد الكارثة إلى إجراء الاختبارات على أكثر من فصيلة من الكائنات الحية في المختبر، ولم تتكرر الكارثة بعد ذلك».

أدوية قوية وفعالة

ربما تمثل حقيقة استمرار استخدام ثاليدوميد حتى يومنا هذا خبرًا مفاجئًا، فقد وافقت إدارة الغذاء والدواء على استخدامه في علاج داء هانسن أو الجذام، وفي الأورام المتعددة وهي نوع من السرطان يصيب كريات الدم البيضاء. قُيد وصفه منذ عام 1998 بصرامة بواسطة نظام ثاليدوميد التثقيفي وبرنامج الصرف الآمن الذي يوضح مدى خطورة الدواء.

قد تسبب الأدوية القوية بطبيعتها تأثيرات معاكسة حادة. وتبين فاجعة الثاليدوميد الحاجة إلى أنظمة صارمة لفحص الأدوية وتسويقها وتوزيعها واستخدامها.

اقرأ أيضًا:

هل لقاح كورونا آمن للحوامل؟

ترجمة: حيدر بوبو

تدقيق: محمد الصفتي

مراجعة: أكرم محيي الدين

المصدر