يشهد علم الفلك حاليًا ثورة، فخلال العشر سنوات الماضية تقدمت دراسات الكواكب الخارجية (خارج النظام الشمسي) بشكل كبير، كما ظهر علم فلك موجات الجاذبية، أضف إلى ذلك التقاط الصور الأولى للثقوب السوداء فائقة الكتلة (SMBHs). وقد طال تقدم هائل مجالًا قريبًا أيضًا: قياس التداخل، الذي جاء بفضل الآلات فائقة الحساسية والقدرة على مشاركة البيانات وتجميعها من مراصد من مختلف أنحاء العالم. يفتح علم قياس التداخل الضوئي على خط قاعدي طويل جدًا (VLBI) عوالم جديدة كليًا من الاحتمالات.

حسب دراسة حديثة أجراها باحثون من أستراليا وسنغافورة فإن هناك تقنية جديدة يمكنها تحسين الـ VLBI الضوئي. وتُعرف بمرور رامان المحفَّز الحافظ للحرارة (STIRAP)، الذي يسمح بنقل المعلومات الكمية دون أن يُفقد منها شيء.

ربما تسمح هذه التقنية عند طبعها على رمز تصحيح الخطأ الكمي بملاحظات الـ VLBI في أطوال موجية كان يتعذر الوصول إليها سابقًا. وبمجرد دمجها مع الجيل الموالي من الآلات، قد تساهم هذه التقنية في إجراء دراسات أكثر تفصيلًا للثقوب السوداء والكواكب الخارجية والنظام الشمسي وأسطح النجوم البعيدة.

قادت زيكسين هوانغ البحث، زميلة أبحاث ما بعد الدكتوراه في مركز أنظمة الكم الهندسية (EQuS) بجامعة ماكواري في سيدني، أستراليا. وانضم إليها جافين برينان، أستاذ الفيزياء النظرية بقسم الهندسة الكهربائية وهندسة الحاسبات ومركز تقنيات الكم في جامعة سنغافورة الوطنية (NUS)، ووينجكاي أويانغ، زميل أبحاث أول في مركز تقنيات الكم في NUS.

للتوضيح، تعتمد تقنية قياس التداخل الضوئي على تجميع الضوء المُلتقط من طرف عدة تلسكوبات من أجل إنتاج صور لشيء يصعب تمييزه حد الاستحالة بغير هذه الطريقة.

يعود قياس التداخل الضوئي ذو القاعدة الطويلة جدًا إلى تقنية خاصة تستعمل في علم الفلك الراديوي، تقنية تعمل على تجميع الإشارات الصادرة من مصدر أشعة الراديو (الثقوب السوداء، النجوم النابضة، سدم تشكل النجوم …) لخلق صور مفصّلة لبنيتها ونشاطها.

خلال السنوات الأخيرة، أنتج الـ VLBI أكثر الصور تفصيلًا للنجم الذي يدور حول ساغيتاريوس أ* (Sgr A*)، الثقب الأسود فائق الكتلة القابع في مركز مجرتنا. ومكّنت أيضًا علماء الفلك مع تعاون تلسكوب أفق الحدث (EHT) من التقاط أول صورة للثقب الأسود (M87*) وساغيتاريوس أ* نفسه.

لكن وكما أشاروا في دراستهم، قياس التداخل التقليدي ما يزال معاقًا بالكثير من الحدود الفيزيائية، بما في ذلك فقدان المعلومات والتشويش وحقيقة كون الضوء المُلتقط بصفة عامة كميًا في طبيعته (حيث تتشابك الفوتونات). وبإيجاد طرق ناجعة للتعامل مع هذه الحدود، يمكن استعمال الـ VLBI لأرصاد فلكية أدق بكثير.

قالت الدكتورة هوانغ لموقع Universe Today عبر البريد الإلكتروني: «تعمل أنظمة التصوير الحالية ذات القاعدة الطويلة التي تعتبر آخر ما ورد في هذا المجال في نطاق الموجات الدقيقة للطيف الكهرومغناطيسي. ولتحقيق قياس التداخل الضوئي، يجب أن تكون جميع أجزاء مقياس التداخل مستقرة لدخول جزء من الطول الموجي للضوء، وبذلك قد يتداخل الضوء.

يعتبر القيام بشيء كهذا عبر مسافات طويلة في غاية الصعوبة، إذ إن مصادر التشويش قد تأتي من الآلات نفسها، زد على ذلك كلًا من التمدد الحراري والانكماش والتذبذب …إلخ. وفوق هذا كله هناك فقدان مرافق للعناصر الضوئية.

تتمثل فكرة هذا المجال البحثي في التمكن من الانتقال من الموجات الدقيقة إلى الترددات الضوئية؛ وتنطبق هذه التقنيات أيضًا على الموجات تحت الحمراء. فمع أننا تمكنا من القيام بالتداخل الضوئي ذو القاعدة الطويلة للموجات الدقيقة إلا أن المهمة تغدو أكثر صعوبة مع الترددات الضوئية. فحتى أسرع الأجهزة الإلكترونية لا يمكنها قياس تذبذبات الحقل الكهربائي بشكل مباشر عند هذه الترددات».

تقول الدكتورة هوانغ إن مفتاح تجاوز هذه الحدود يكمن في توظيف تقنيات التواصل الكمي، مثل مرور رامان المحفَّز الحافظ للحرارة الذي يتكون من استعمال ومضتي ضوء متجانستين لنقل المعلومات الضوئية بين حالتين كميتين مناسبتين.

قالت هوانغ إن عند تطبيقه على قياس التداخل الضوئي على خط قاعدي طويل جدا، فإنه سيسمح بنقل مجموعات فعالة ومختارة بين الحالات الكمية دون مواجهة العوائق الاعتيادية كالتشويش والفقدان.

حسب وصفهم في ورقتهم البحثية «تصوير النجوم باستعمال تصحيح الخطأ الكمي»، فإن العملية حسب تصوّرهم سوف تشتمل على تحويل ضوء النجوم بتماسك إلى الحالات الذرية “المظلمة” حيث يغيب الاشعاع.

قالت هوانغ أن الخطوة الموالية تتمثل في ربط الضوء مع تصحيح الخطأ الكمي (QEC)، وهي تقنية تُستعمل في الحوسبة الكمية لحماية المعلومات الكمية من الأخطاء الناجمة عن عدم التماسك أو “التشويشات الكمية” الأخرى.

لكن هوانغ أشارت إلى أن هذه التقنية نفسها قد تسمح بعمليات قياس التداخل أكثر تفصيلًا وضبطًا: «لتقليد مقياس تداخل ضوئي طويل، يجب أن يُجمع الضوء ويُعالج بتماسك، وبهذا الصدد نقترح استعمال تصحيح الخطأ الكمي لتخفيف الأخطاء الناتجة عن الضياع والتشويش في هذه العملية. تصحيح الخطأ الكمي مجال سريع التطور يركز أساسًا على تمكين الحوسبة الكمومية القابلة للتوسيع في ظل وجود الأخطاء. وبضمه إلى التشابك الموزع مسبقًا، يمكننا إنجاز عمليات تستخرج المعلومات التي نحتاجها من ضوء النجوم بينما تعمل على مسح التشويش».

لاختبار هذه النظرية، افترض الفريق سيناريوها بين جسيمين (أ و ب) يبعدان عن بعضهما مسافةً كبيرة تجمع الضوء الفلكي.

كلاهما يشاركان التشابك الموزع مسبقًا وتتضمن “ذاكرات كمية” يُخزن فيها الضوء، وكل جسيم يحضر مكانه الخاص للبيانات الكمية (كيوبت) في رمز معين من تصحيح الخطأ الكمي. ثم تُطبع الحالات الكمية المستقبَلة على رمز مشترك من تصحيح الخطأ الكمي بواسطة مفسر رموز يحمي البيانات من العمليات اللاحقة المشوشة.

على مستوى “أداة الترميز”، تُحفظ الإشارات في الذاكرات الكمية عبر تقنية STIRAP، التي تسمح بربط الضوء القادم بشكل متماسك في حالة ذرة غير مشعة.

إن القدرة على التقاط الضوء من المصادر الفلكية وتفسير الحالات الكمية (والتخلص من الضوضاء الكمية وفقدان المعلومات) ستغير قواعد اللعبة بما يخص قياس التداخل. وعلاوة على ذلك، سيكون لهذه التحسينات آثار جمة على مجالات علم الفلك الأخرى التي تحدث فيها حاليًا ثورة أيضًا.

قالت هوانغ: «بالانتقال إلى الترددات الضوئية، ستعمل شبكة التصوير الكمومي هذه على تحسين دقة التصوير بمقدار ثلاث إلى خمس مرات. وهذه قوة كافية لتصوير الكواكب الصغيرة التي تدور حول النجوم القريبة، وتفاصيل الأنظمة الشمسية، وحركية الأسطح النجمية، وأقراص التراكم، وربما حتى التفاصيل حول آفاق الحدث للثقوب السوداء، الشيء الذي لا يمكن لأي من المشاريع المخطط لها حاليا القيام به».

في المستقبل القريب، سيستخدم تلسكوب جيمس ويب الفضائي (JWST) مجموعته المتقدمة من أدوات التصوير بالأشعة تحت الحمراء لتوصيف الغلاف الجوي للكواكب الخارجية بطريقة لم يسبق لها مثيل. وينطبق الشيء نفسه على المراصد الأرضية مثل التلسكوب الكبير للغاية (ELT) وتلسكوب ماجلان العملاق (GMT) وتلسكوب الثلاثين مترًا (TMT).

باستعمال المرايا الأولية الكبيرة، والعدسات التكيفية، وراصدات الإكليل الشمسي، وأجهزة قياس الطيف، ستتمكن هذه التلسكوبات من إجراء دراسات تصويرية مباشرة للكواكب الخارجية، ما سيسفر عن معلومات قيّمة حول أسطحها وغلافها الجوي.

باستغلال التقنيات الكمومية الجديدة ودمجها مع الـ VLBI، سيكون لدى المراصد طريقة أخرى لالتقاط صور لبعض أكثر أجسام كوننا صعوبة في الوصول إليها ورؤيتها. وأعيد التأكيد لآخر مرة على أن الأسرار التي يمكن أن تكشفها هذه التقنية ستكون ثورية بمعنى الكلمة!

نشر هذا المقال في الأصل بواسطة Universe Today.

اقرأ أيضًا:

في حدث تاريخي، الحوسبة الكمية تصل إلى دقة تقارب 99%

ما هو التشابك الكمي؟

 

تدقيق: رغد أبو الراغب

المصدر