النيوترينوات جسيمات صغيرة ومتعادلة الشحنة تمتثل لنموذج الجسيمات القياسي في الفيزياء. على الرغم من تقدير وجودها بوصفها واحدةً من أكثر الجسيمات وفرةً في الكون، إلا أن مراقبتها تمثل حتى الآن تحديًا كبيرًا، نظرًا لانخفاض احتمال تفاعلها مع مادة أخرى.

من أجل اكتشاف هذه الجسيمات، استخدم الفيزيائيون أجهزةً كاشفةً ومعدات متقدمةً لفحص مصادر النيوترينو المعروفة. أسفرت جهودهم في النهاية عن مشاهدة النيوترينو الصادرة عن الشمس والأشعة الكونية والمستعرات النجمية العظمى وغيرها من الأجسام الكونية، إضافةً إلى مُسَرّعات الجسيمات والمفاعلات النووية.

في هذا المجال من الدراسة، كان الهدف طويل الأمد هو مراقبة النيوترينوات داخل المصادمات؛ وهي مسرعات للجسيمات حيث تتسارع فيها حزمتان من الجسيمات حتى تتصادما مع بعضهما.

رصد تعاون بحثي كبير، هما FASER (تجربة البحث الأمامي) وSND@LHC (كاشف التشتت والنيوترينو)، النيوترينوات في المصادم لأول مرة، باستخدام كاشفات موجودة في مفاعل الهادرونات الكبير (LHC) في مركز CERN في سويسرا. نُشرت نتائج الدراسة مؤخرًا في مجلة Physical Review Letters.

يقول كريستوفاو فيليلا؛ وهو جزء من تعاونية SND@LHC: « تُنتج النيوترينوات بكثرة في مفاعلات البروتون مثل LHC، ومع ذلك، حتى الآن، لم تُشاهد هذه النيوترينوات مباشرةً. التفاعل الضعيف جدًا للنيوترينوات مع الجسيمات الأخرى يجعل اكتشافها تحديًا كبيرًا ولهذا السبب تُعد أقل الجسيمات دراسةً في النموذج القياسي لفيزياء الجسيمات».

يقوم التعاون بين FASER وSND@LHC بجهود بحثية متميزة وكلاهما يستخدم مصادم الهادرونات الكبير في مركز CERN. مؤخرًا، رصدت تلك الجهود أول نيوترينوات مصادمة مستقلة ما قد يفتح آفاقًا جديدةً مهمةً لأبحاث فيزياء الجسيمات التجريبية.

تأسست تعاونية FASER بهدف مراقبة الجسيمات الخفيفة والجسيمات ضعيفة التفاعل. كانت FASER أول مجموعة بحثية تلاحظ النيوترينو في LHC باستخدام كاشف FASER الذي يقع على بعد أكثر من 400 متر من تجربة ATLAS المشهورة، في نفق منفصل. تُراقب FASER وSND@LHC النيوترينوات المُنتجَة في منطقة التفاعل نفسها داخل LHC كما تفعل ATLAS.

يقول جوناثان لي فنغ؛ المتحدث الرسمي لتعاونية FASER: «مُفاعلات الجسيمات موجودة منذ أكثر من 50 عامًا، وقد اكتُشفت كل الجسيمات المعروفة باستثناء النيوترينوات. في الوقت نفسه، في كل مرة اكتُشفت فيها النيوترينوات من مصدر جديد، سواء كان ذلك من مفاعل نووي أو الشمس أو الأرض أو انفجارات النجوم، فإننا نتعلم شيئًا مهمًا للغاية عن الكون. وكان جزء من أعمالنا الحديثة، هو سعينا لاكتشاف النيوترينوات التي تُنتج في مفاعل الجسيمات لأول مرة».

رصد فريق FASER النيوترينوات في المصادم بوضع كاشفها على طول خط الشعاع، ومتابعة مساراتها. من المعروف أن النيوترينوات عالية الطاقة تُنتج أساسًا في هذا الموقع، لكن لدى كاشفات أخرى في LHC نقاط عمياء في هذا الاتجاه، وبالتالي لم تكن قادرةً على مراقبتها في الماضي.

يوضح فنغ: «نظرًا لأن لهذه النيوترينوات تدفقات عالية وطاقات عالية، فهذا يجعلها أكثر عرضةً للتفاعل. لقد تمكنا من اكتشاف 153 منها باستخدام كاشف صغير جدًا وغير مكلف أُنشئ في وقت قصير جدًا».

«في السابق، كان يُعتقد بأن فيزياء الجسيمات تنقسم إلى قسمين: تجارب الطاقة العالية؛ التي كانت مطلوبةً لدراسة الجسيمات الثقيلة، مثل الكواركات العلوية وبُوزونات هيغز، وتجارب عالية الكثافة؛ التي كانت مطلوبةً لدراسة النيوترينوات. أظهر هذا العمل أنه يمكن لتجارب الطاقة العالية أيضًا دراسة النيوترينوات، وبالتالي جمعت بين الحدود عالية الطاقة وعالية الكثافة».

تتمتع النيوترينوات التي اكتشفها فنغ وبقية أعضاء فريق FASER بأعلى طاقة رُصدت في بيئة مختبرية. وبالتالي قد يمهد ذلك الطريق لدراساتٍ مفصلة حول خصائص النيوترينوات، فضلاً عن البحث عن جسيمات غامضة أخرى.

بعد وقت قصير من إعلان تعاونية FASER عن أول ملاحظة للنيوترينوات في المصادم، أكملت تعاونية SND@LHC تحليلها وسجلت ثمانية أحداث إضافية تشمل النيوترينوات في LHC.

أُنشئت تجربة SND@LHC خصيصًا لاكتشاف النيوترينوات باستخدام كاشف طوله متران، وموضوع استراتيجيًا في موقع في LHC حيث تكون كثافة النيوترينوات عاليةً، لكنه محمي من حطام تصادم البروتونات بحوالي 100 متر من الخرسانة والصخور.

بمثابة جزء من دراستهم الحديثة، حللت تعاونية SND@LHC البيانات التي جُمعت بواسطة كاشفهم بين يوليو ونوفمبر 2022، وتبين أن عملية جمع البيانات الأولى تلك كانت ناجحةً للغاية. إذ سجل الفريق في النهاية 95% من بيانات التصادمات التي سُلّمت لهم، وشهدوا في النهاية أحداث النيوترينوات في المصادم.

يقول فيليلا: «إن مراقبة النيوترينوات في المصادم تفتح أبوابًا لقياسات جديدة ستساعدنا على فهم بعض الألغاز الأساسية في النموذج القياسي للفيزياء الجسيمية، مثل سبب وجود ثلاثة أجيال من جسيمات المادة (الفرميونات) التي تبدو نسخًا طبق الأصل عن بعضها في جميع الجوانب باستثناء كتلتها».

«علاوةً على ذلك، وُضع كاشفنا في موقع يُمثل نقطةً عمياء لتجارب LHC الأكبر حجمًا. وبسبب ذلك، ستسهم قياساتنا أيضًا في فهم أفضل لبنية البروتونات المتصادمة».

تسهم هذه الدراسات الحديثة التي أجراها تعاون FASER وSND@LHC كثيرًا في بحوث الفيزياء التجريبية للجسيمات المستمرة، وقد تفتح في المستقبل الأبواب أمام إنجازات أخرى في هذا المجال. والآن بعد تأكيد وجود النيوترينوات في LHC، ستستمر هاتان التجربتان في جمع البيانات، ما قد يؤدي في النهاية إلى مشاهدات أكثر أهميةً.

يضيف فنغ: «سوف نشغل كاشف FASER لسنوات عديدة أخرى ونتوقع جمع ما لا يقل عن 10 أضعاف تلك البيانات».

«الحقيقة المثيرة للاهتمام هي أن هذا الاكتشاف الأولي استخدم فقط جزءًا من الكاشف. وفي السنوات القادمة، سنكون قادرين على استخدام كامل قوة FASER لرسم تفاعلات النيوترينو ذات الطاقة العالية تلك بتفاصيل رائعة. بالإضافة إلى ذلك، نحن نعمل على تطوير منشأة الفيزياء المتقدمة (Forward Physics Facility)، وهي مقترح لبناء كهف جديد تحت الأرض في مركز CERN، ستتيح لنا اكتشاف ملايين النيوترينوات عالية الطاقة، إضافةً إلى البحث عن الجسيمات المشحونة بالميلي وغيرها من الظواهر المرتبطة بالمادة المظلمة».

اقرأ أيضًا:

رصد الجسيم الشبح النيوترينو لأول مرة في مصادم الهادرونات الكبير

يتوجه مصادم الهادرونات الكبير لاستعمال طاقة أعلى لدراسة المادة المظلمة

ترجمة: حمداش رانية

تدقيق: منال توفيق الضللي

المصدر