كان ونستون تشرشل أحد أشهر رجال عصره، ومن أعظم رجال السياسة في القرن العشرين. ورغم ولادته لعائلة ثرية فقد كرس نفسه للخدمة العامة. اختلف الناس حول إرث تشرشل وشخصيته التي جمعت كثيرًا من التناقضات، فقد كان مثاليًا وبراغماتيًا، وخطيبًا وجنديًا، وداعيًا إلى الإصلاح التقدمي ونخبويًا متحمسًا، ومدافعًا عن الديمقراطية -خاصةً في أثناء الحرب العالمية الثانية- وعن الإمبراطورية البريطانية المتهاوية في الوقت نفسه. لكن المؤكد أن الكثيرين داخل بريطانيا وخارجها يعدونه بطلًا.

حياته المبكرة:

ولد ونستون تشرشل لعائلة عريقة من الأرستقراطيين السياسيين، فأبوه اللورد (راندولف تشرشل) ينحدر من دوق (مالبورو) الأول، وكان أيضًا سياسيًا معروفًا في حزب المحافظين في سبعينيات وثمانينيات القرن التاسع عشر. ووالدته (جيني جيروم) هي أمريكية ورثت ثروة والدها الذي كان مُضاربًا في البورصة وأحد مالكي صحيفة نيويورك تايمز (كانت الأمريكيات الثريات اللائي يتزوجن نبلاء أوروبيين يُعرَفن باسم أميرات الدولار).

وُلد تشرشل في منزل العائلة بالقرب من أكسفورد في 30 نوفمبر سنة 1874. وتلقى تعليمه في مدرسة هارو الإعدادية، وكان أداؤه الدراسي ضعيفًا، فلم يكلف نفسه عناء محاولة الانضمام إلى جامعة أكسفورد أو كامبريدج، بل انضم إلى أكاديمية ساندهيرست العسكرية الملكية سنة 1893.

كتبه ومعاركه:

سافر تشرشل بعد تخرجه في ساندهيرست في كل أنحاء الإمبراطورية البريطانية بوصفه جنديًا وصحافيًا، وسافر سنة 1896 إلى الهند. ونشر كتابه الأول سنة 1898، وسرد فيه تجاربه التي خاضها في الأقاليم الحدودية شمال غرب الهند. وبعثته صحيفة (لندن مورنينج بوست) سنة 1899 لتغطية حرب البوير في جنوب إفريقيا، ووقع أسيرًا في يد جنود العدو فور وصوله (لكن أخبار هروبه الجريء من نافذة الحمام الصغيرة جعلت منه شخصًا شهيرًا في بريطانيا).

وعندما عاد تشرشل البالغ من العمر 26 عامًا إلى إنجلترا سنة 1900 كان قد نشر 5 كتب باسمه.

ونستون تشرشل وتغيير الأحزاب:

انضم ونستون تشرشل في العام نفسه إلى مجلس العموم نائبًا عن حزب المحافظين، ثم غير انتماءه الحزبي بعد 4 سنوات ليصبح ليبراليًا. وسعى لتحقيق إصلاحات اجتماعية تقدمية كالمطالبة بيوم عمل مدته ثماني ساعات، وحد أدنى للأجور تفرضه الحكومة، وتبادل عمالة للعاطلين عن العمل تديره الدولة، ونظام تأمين صحي شامل، ما سبب إثارة غضب زملائه المحافظين الذين اتهموه بخيانة أبناء طبقته الثرية.

معركة (جاليبولي):

صرف تشرشل انتباهه سنة 1911 عن السياسة الداخلية عندما أصبح الأميرال الأول (وهو منصب يعادل وزير البحرية في الولايات المتحدة). لاحظ تشرشل أن ألمانيا تزداد عدوانية يومًا بعد يوم، فبدأ بإعداد بريطانيا العظمى للحرب، وأنشأ سلاح جو البحرية الملكية، وطور الأسطول، وساهم في اختراع إحدى الدبابات الأُوَل للجيش البريطاني.

رغم استعداد تشرشل وبصيرته، وصلت الحرب العالمية الأولى إلى طريق مسدود منذ بدايتها، فاقترح شن حملة عسكرية في محاولة لتحسين وضع بلاده في الحرب. كان هدف الحملة غزو شبه جزيرة جاليبولي في تركيا سنة 1915، لكن سرعان ما تحولت هذه الحملة إلى كارثة.

أمِل تشرشل أن يدفع هذا الهجوم تركيا إلى الانسحاب من الحرب وأن يشجع دول البلقان على الانضمام إلى الحلفاء، لكن مقاومة تركيا كانت أقوى مما توقع، وبعد تسعة أشهر من القتال وسقوط 250 ألف قتيل، اضطر الحلفاء إلى الانسحاب مهزومين، استقال تشرشل بعد كارثة جاليبولي البحرية.

ونستون تشرشل: معلومات وحقائق - أعظم رجال السياسة في القرن العشرين - الأرستقراطيين السياسيين - تشرتشل خلال الحرب العالمية الثانية

ونستون تشرشل بين الحربين:

تنقل تشرشل بين الوظائف الحكومية في العشرينيات والثلاثينيات، وعاد إلى حزب المحافظين سنة 1924. كان تشرشل يحذّر مواطنيه باستمرار من خطر صعود القومية الألمانية، خاصةً بعد وصول النازيين إلى الحكم سنة 1933، لكن البريطانيين كانوا مرهقين من الحرب وغير مستعدين للتدخل في الشؤون الدولية مرةً أخرى.

تجاهلت الحكومة البريطانية أيضًا تحذيرات تشرشل محاولةً تجنب الصدام مع هتلر، حتى أن رئيس وزراء بريطانيا (نيفيل تشامبرلين) وقَّع سنة 1938 اتفاقًا يمنح ألمانيا جزءًا من تشيكوسلوفاكيا. وانتقد تشرشل هذه الاتفاقية قائلًا: «رمى دولة صغيرة إلى الذئاب مقابل وعد بالسلام».

وبالفعل حنث هتلر بوعده بعد عام وغزا بولندا، فأعلنت كل من بريطانيا وفرنسا الحرب، ودُفِع تشامبرلين إلى الاستقالة من منصبه، وتولى ونستون تشرشل منصب رئيس الوزراء سنة 1940.

ونستون تشرشل (البولدوج البريطاني)

قال تشرشل أمام مجلس العموم في أول خطاب له بوصفه رئيسًا للوزراء: «ليس لدي ما أقدمه سوى الدم والكدح والدموع والعرق. أمامنا أشهر طويلة من النضال والمعاناة، تسألونني، ما سياستنا؟ وأقول لكم: سياستنا هي الحرب برًا وبحرًا وجوًا، نبذل فيها كل قوتنا، وكل ما أوتينا من عزم وثبات، الحرب ضد ديكتاتورية وحشية، فاقت بشاعة جرائمها كل الفظائع التي ارتُكِبت في تاريخ البشرية. هذه هي سياستنا، قد تتساءلون ما هدفنا؟ فأجيبكم بكلمة واحدة: النصر، النصر بأي ثمن، النصر رغم كل الأهوال، النصر مهما طال طريقه أو صعُب، فلا نجاة لنا من دون النصر».

كان الطريق إلى النصر في الحرب العالمية الثانية طويلًا وشاقًا كما توقع تشرشل، فسقطت فرنسا في يد النازيين في يونيو سنة 1940، وبدأت الطائرات المقاتلة الألمانية في يوليو غارات جوية مُدمِّرة على بريطانيا نفسها استمرت 3 أشهر.

ورغم أن المستقبل بدا مظلمًا، بذل تشرشل أقصى جهده لإبقاء معنويات البريطانيين مرتفعة، فألقى خطبًا حماسية في البرلمان والإذاعة، وأقنع الرئيس الأميركي فرانكلين روزفلت بتزويد الحلفاء بالإمدادات الحربية من ذخيرة وبنادق ودبابات وطائرات، وهو برنامج عُرِف باسم (سياسة الإعارة والتأجير) حتى قبل دخول الولايات المتحدة الحرب.

ومع أن تشرشل كان أحد أهم مهندسي انتصار الحلفاء في الحرب العالمية الثانية، فقد أطاح الناخبون البريطانيون الذين أنهكتهم الحرب بحزب المحافظين ورئيس وزرائهم بعد شهرين فقط من استسلام ألمانيا سنة 1945.

الستار الحديدي:

أمضى تشرشل -الذي أصبح رئيس وزراء سابق- السنوات التالية يحذر البريطانيين والأمريكيين من خطر التوسع السوفييتي. ففي خطاب ألقاه في مدينة فولتون في ولاية ميزوري الأميركية سنة 1946، أعلن تشرشل أن (الستار الحديدي) الذي أُسدل في وسط أوروبا معادٍ للديمقراطية ويمثل تحديًا متزايدًا وخطرًا على المسيحية. كان تشرشل أول من استخدم مصطلح (الستار الحديدي) الذي شاع استخدامه فيما بعد عند الحديث عن الخطر الشيوعي.

أصبح ونستون تشرشل رئيسًا للوزراء مرةً ثانية سنة 1951 وكان عمره وقتها 77 عامًا. أمضى معظم مدة ولايته في محاولات فاشلة لإقامة وفاق دائم بين الشرق والغرب، وتقاعد من منصبه سنة 1955.

كرمت الملكة إليزابيث ونستون تشرشل سنة 1953 ومنحته لقب فارس، وتوفي سنة 1965 بعد عام واحد من تقاعده من البرلمان.

اقرأ أيضًا:

أصول اللغة البشرية تعود إلى 25 مليون سنة!

الفينيقيون: من هم؟ وأين عاشوا؟

ترجمة: فارس علام

تدقيق: وئام سليمان

مراجعة: أكرم محيي الدين

المصدر