لو نظرتَ إلى مشهدٍ يحتوي مجموعةً غير منتظمة من الصّخور الحادّة، وأكوامٍ من الأنقاضِ المُفكّكةِ مُتناثرة بين الصُّدوع المُتعرّجة، وأحواضٍ عميقة من الغبار، فإنّ أفضل تخمينٍ قد يخطُر على بالك، هو أنّ المكان غير مأهولٍ على الإطلاق. إنّ هذا بالنّهاية هو مُجرّد تخمين؛ لأنّه لم يسبق لأحدٍ في أيِّ وقتٍ مضى، رؤية هذا المشهد عن قُرب. تخيّل الآن أنّك في حاجة لإرسال روبوتٍ عبر هذا المشهد، من الهبوط على شفير حفرةٍ شديدة الانحدار، إلى حافّةِ حفرةٍ مُغطّاة بالجليد، تبعُد ألف متر. تخيّل أيضًا أنّ الجاذبية هي جزء صغير ممّا لدينا نحنُ على الأرض، ولا تستطيع التّواصل مع الرّوبوت؛ لأنّه يبعُد 50 مليون ميل، ويُحلِّق على الجانب الآخر البعيد من المريخ. ما المُتطلّبات اللازم توفّرها في الروبوت ليحتمل كُلّ هذا؟
أن يكون مكعّبًا، وهذا ممكنٌ جدًّا.

إليك القُنفذ (Hedgehog)، الذي يُمكن أن يصبحَ دليلُنا لاستكشاف الأجسام الصّغيرة، مثل الكويكبات والمذنّبات التي تلتفُّ حول النّظام الشّمسيّ. صمّمه ماركو بافون “Marco Pavone” من ستانفورد، وهو أستاذٌ مساعدٌ في علم الطّيران والملاحة الفضائيّة (Aeronautics and astronautics)، وبِن هوكمان “Ben Hockman”، طالبُ دراساتٍ عليا في الهندسة الميكانيكيّة. إنّ هذه العربة الجوّالة الفضائيّة، لا تمتلك عجلات للحركة، ولا أسلحة للحمل، ولا أرجل لتخطو بها. هي مُجرّد قالب واحد مُتضخّم، يمتلك القُدرة على القفز والشّقلبة عبر التّضاريس غير المعروفة للكويكبات والمذنّبات والأقمارِ الصّغيرة. وبما أنّ القنفذ ليس جزءًا من أيّ بعثاتٍ فضائيّة مُخطّط لها حتّى الآن، أنهى فريقُ الباحثين المسؤولين عن العربة الجوّالة مؤخّرًا، عقبةً كبيرةً كانت في طريقهم، ليُحوِّلوا كتلةَ الرّوبوت الخاصّ بهم، إلى “مُحرّك استكشاف للفضاء.”

 

قفزة واحدة صغيرة للعربات الجوّالة.

يقول بافون: “هناك تحدّيان اثنان، البيئات القاسية والمستويات المنخفضة من الجاذبية، يجعلان الهبوط على الأجسام الصّغيرة واستكشافها صعبًا للغاية”. بينما كانَ هُناك بضعة مركبات فضائيّة تمكّنت من الاتصال مع الكويكبات والمذنّبات، مثل مُهمّة وكالة استكشاف الفضاء اليابانيّة هايابوسا ” “Hayabusa، ومُهمّة وكالة الفضاء الأوربيّة روزيتا “Rosetta”، إلّا أنّه تحقّق لهما نجاحٌ جزئيّ فقط. في أحسن الأحوال، اقتصرت الاستقصاءات عند الموضع الذي هبطت فيه المركبتان فقط. ويُضيف بافون: “لا أحد من المركبات قدّم بالفعل استكشافات واسعة لجسمٍ صغير، وإنّ هذا ما نريدُه”.

 

مشروع القُنفذ، هو جزء من التّعاون بين باحثين في جامعة ستانفورد، معهد ماساتشوستس للتّكنولوجيا، ومختبر الدّفع النّفّاث (JPL)، ويتمّ تمويله من قِبَل برنامج وكالة ناسا للمفاهيم المُتقدّمة المُبتكرة (NIAC). يقول مُنفّذ البرنامج، جيسون ديرلث “Jason Derleth”: “إنّ (NIAC) يسعى إلى ‘تغيير المُمكن’ في الفضاء، من خلال تطوير المشاريع التي تكون مُبتكرة، وذات مصداقيّة في الوقت ذاته”.

 

ويقول أيضًا: “إنّ القُنفذ يُلبِّي هذا التّوازن؛ عبر تحويل مساوئ الحركة [انخفاض الجاذبية]، إلى شَرطٍ للحركة. ستكون العربة الجوّالة المُقترحة، قادرة على القيام بأشياء على الأجسام الصغيرة يستحيل القيام بها الآن – مع ذلك، لا تَستخدم عربة بافون الجوّالة المُقترحة أيّ تقنيّاتٍ جديدة، هي تَستخدم فقط التّقنيّات الموجودة حاليًّا بطريقةٍ جديدة ومُبتكرة”.

 

رحلة على متن ‘مُذنب القيء’.

إنّ كيفيّة حلّ بافون وهوكمان لُغز التّنقل أثناء انخفاض الجاذبيّة، هي قصّة إبداع ضمن قيود. في بيئة الجاذبيّة الصُّغرى، فإنّ نوع العربات المتجوّلة ذات العجلات أو الجنازير، إذا ما استُخدمت لاستكشاف سطح المرّيخ، فإنّها ستفشل فشلًا شبه مؤكّد. في بيئاتٍ حيث يكون وزنك فيها مساويًا لوزنِ مِشبك الورق، لدرجة لو قفزت فيها بقوّة كافية قد لا تعود أبدًا، فإنّ العجلات والجنازير ستُعاني لأجل كسب قوّة دفع مُلائِمة، ووجود مُعرقل واحد غير متوقّع، حتّى وإن كانَ صغيرًا، يُمكن بسهولة أن يُبعد العربة الجوّالة فتنقلب بلا حولٍ ولا قوّة على ظهرها. بدلًا من الحركة إلى الأمام، يستغلّ القنفذ حقيقة أنّ الأشياء ليست مُثبّتة على الأرض بقوّة، فيقفز.

وتُوضَع ثلاث حذافات داخليّة (وهي أداة ميكانيكيّة لها عزم قصور ذاتيّ معين، تُستخدم كمخزنٍ للطّاقة الدّورانيّة) داخل مكعّب مع زوايا مُعزّزة؛ لامتصاص صدمة الهبوط. تلك الحذافات، تُحرّك المُكعّب بعمليّة تشغيل داخليّة؛ من خلال الدّوران والفرامل الفُجائيّة، وتُحقّق الحذافات كمّيّات مُتفاوتة من عزم الدّوران، ممّا يسمح للمُكعّب بقفزة موجّهة عندما يحتاج تغطية مسافة معيّنة، مثل تشقلب لاعب جمباز على حصيرة. وفي حال دُفِنَ القنفذ في مجرًى رمليّ، يمكن له أن يُحدِثَ زوبعة، تشقّ له طريقًا إلى الأعلى للفرار.

 

على الأقل، كانت تلك هي نظريّات الباحثين حول كيف يمكن للقنفذ أن يُناور في بيئاتِ الجاذبيّة الصُّغرى. يقول هوكمان: “في حين بإمكان بعض التّصاميم المختبريّة الإبداعيّة أن تُعيد تمثيل بيئة انعدام الجاذبيّة هُنا على الأرض، إلّا أنّ أماكن الاختبار هذه لديها عيبٌ رئيسيّ واحد؛ تمامًا كالدُّمية المُتحرّكة، هذه الأماكن تتطلّب تعليق العربة الجوّالة بوساطةِ نظامٍ معقّدٍ من البَكَرات والأثقال المُوازنة لإفراغ الجاذبيّة بكفاءة. ولرؤية كيف سيؤدّي القنفذ غير المربوط فعلًا ضمن أطر الجاذبيّة المنخفضة، أخذ الباحثون القنفذ بجولة في حزيران من عام 2015 لركوب “مُذنّب القيء” (سُمِّيَ بذلك بسبب شعور الغثيان الذي يُصاحب راكبي الطّائرة عند نقطة الصّفر جاذبيّة)، وهي طائرة تابعة لوكالة ناسا، تندفع صعودًا ونزولًا في قطوع مُكافئة عميقة؛ لتوفير بيئة شبه عديمة الوزن (نقطة الصّفر جاذبية).

 

 

خلال فترة أربعة أيّام، تمكّنت الطّائرة من تحقيق 200 فترة اقتربت فيها من حالة شبه انعدام الجاذبيّة. خلال كلّ فترة (مدّتها 20 ثانية)، وضع الباحثون القنفذ ليأخذ خطواته. واختبروا حركات قفزٍ ولفّ مُختلفة على مجموعة متنوعة من الأسطح التي قد تواجهها العربة الجوّالة على الكويكب. يقول هوكمان: “لقد كانت فرصة لرؤية القنفذ يُجري قفزات أو أيّ مُناورة أخرى، كما سيكون على كويكب أو مذنب، بدون قيود أو شروط، كُنَّا سعداء جدًّا بالطّريقة التي يؤدّيها. نحن لا نزال نُحلّل جميع البيانات، ولكن حتّى مجرّد رؤية قفزة القنفذ في الاتجاه الذي أمرناه به للقفز، أمرٌ يبعث على الاطمئنان. لقد أثبتنا بنجاحٍ نموذجًا جديدًا وكاملًا من التّنقل في مستويات الجاذبيّة الصُّغرى”.

 

الهدف من ذاتيّة التّحكم.

الآن، وبعد أن أثبت الباحثون بنجاحٍ أنّ القنفذ يمكن أن يُنفّذ مناورات فردية بشكلٍ سليم، يجب أن يربطوا معًا سلسلة من القفزات والتّقلبات، لتمكين العربة الجوّالة من الحركة بشكلٍ هادف ومستقلٍّ عن سيطرة الإنسان. يقول بافون: “نحن نتحدّث عن البيئات التي تكون وعرة جدًّا، لذلك بعيدًا، إمّا أن يكون لديك إنسان آليّ ذاتيّ، أو أن لا تذهب إلى هناك”.

بالتّنسيق مع زملائهم في مختبر الدّفع النفاث، ركّز بافون وهوكمان على تطوير قدرات الاستشعار عن بعد وقدرات الذّكاء؛ لتمكين القنفذ من التّأكد من موقعه الحاليّ، وحساب كم التّقلبات الداخليّة للحذافات التي من شأنها أن تكون ضروريّة لدفعهِ إلى الموقع المطلوب. يقول هوكمان: “ذاتيّة التّحكم تتطلّب دماغًا يُخبر الرّوبوت عن موقعه، وعن وجهته المُحدّدة، وكيفية الوصول إليها. وفي ستانفورد، نحن نعمل على تطوير خوارزميّات المِلاحة التي تسمح للقنفذ بالتّحرك بذكاء، على افتراض أنَّنا نعرف موقعهُ. يُعالج مختبر الدّفع النّفّاث مشكلة تكميليّة، وبأخذ اعتبار امتلاكنا خطّة وبعض أجهزة الاستشعار، كيف يكمن للقنفذ أن يحدّد موقعه؟”

يقول هوكمان: “إنّه لمن المثير للاهتمام حقًّا، كمُّ المُهمّات المُختلفة التي سيقدر على إنجازها هذا المُكعّب الصّغير، حيث ستزوّدنا بعائدٍ علميّ كبير”. على سبيل المثال، نجاح استكشاف الكويكبات أو حتّى قمر فوبوس؛ أكبر قمريّ كوكب المرّيخ الذي يبلغ قطره تقريبًا اثنا عشر ميلًا، قد تفتح لنا المجال لِبعثة استراتيجيّة مأهولة إلى الكوكب الأحمر. وعلى مستوًى أعمق، يقول بافون: “القُدرة على جمع وتحليل الخصائص الكيميائيّة والفيزيائيّة للكويكبات والمذنّبات، يمكن أن تزوّدنا بفَهمٍ أفضل لتطوّر النّظام الشمسيّ، وإمكانيّة الحياة خارج كوكب الأرض”.

يقول دارلث من فريق (NIAC): “آملُ أنّنا سنرى هذه العربة الجوّالة تطير في الفضاء، وأسرع ممّا كان متوقّعًا. ومن الممكن تصوّر أنّ مركبة د. بافون الفضائيّة، يمكن أن تطير كحمولة ثانويّة في مهمة أخرى، يُحتَمل أن تكون مُهمَّة استكشاف لأهداف مُثيرةٍ مُهمّةٍ كأهمّيّة فوبوس وديموس، قمريّ المريخ اللذان قد يكونان في يوم من الأيام، بُؤَرًا استيطانيّة للإنسان في رحلتنا لاستكشاف النّظام الشمسيّ. هذه العربة الجوّالة الصّغيرة، قد تكون أوّل زائر، ستكشف عن مواقع جيّدة، وتحدِّد ما إذا كان هناك أيّ موارد قابلة للاستخدام، في حين مُساعدتنا في وقتٍ واحدٍ على زيادة المعرفة العلميّة لكيفيّة تَشكُّل النظام الشمسيّ”.

القفزات والتّشقلبات النّاجحة للقنفذ، هي خطوة أخرى في هذا الطّريق، ولكن لا يزال هناك الكثير الذي يتعيّن القيام به قبل أن يكون مستعدًّا ليدفع نفسه تلقائيًّا. وأضاف بافون: “إنّنا نُحاول زيادة النّضج التكنولوجيّ من هذه المنصّة، واستخدام الدّروس المُستفادة منه لمعالجة مشاكل أخرى في مجال استكشاف الفضاء. مُهمَّتُنا هي لتعزيز ذاتيّة التّحكم في المنصّات الفضائيّة، وتمكينها من القيام بالأمور الصّعبة التي لم تحدث من قبل – الأمور التي لم يجرؤ أحد حتّى على التّفكير فيها”.


 

المصدر