لقد كانت الحرب العالمية الثانية لحظة محوريّة في تاريخ العالم، ولم يُحدث أي نزاع ٍ من قبل أو منذ ذلك التاريخ أثرًا عميقًا وبعيدَ المدى كما أحدثته الحرب العالمية الثانية على حياتنا، سواء من حيث الحرب نفسها، أو التقدم التكنولوجي الذي نستخدمه الآن يوميًا في حياتنا.

في النضال من أجل الهيمنة على العالم، سعى كل جانب إلى إتباع الأسلوب الخبيث في العدوان والاستراتيجية، ولكن مفتاح الفوز في هذه الحرب كان في كثير من الأحيان أكثر خفيةً.

العديد من العوامل الرئيسية التي ضمنت النصر كانت في الواقع تعتمد على ما يسمى بالـ(بوفينز-Boffins) -وهو مصطلح بريطاني يرمز للعالِم أو المهندس أو أي شخص يساهم في تطوير البحث التقني والعلمي والتنمية على حد سواء- والعمل الجاد بعيدًا في المختبرات وورش العمل، وتطوير طرق أكثر تقدمًا لمحو العدو.

لكن في الوقت الذي سعى فيه كل من الأطراف إلى الحصول على ميزات عسكرية، أثبتت العديد من التطورات العلمية التي جاءت من الحرب أن تلك الاختراعات كانت مثيرة للارتياح ومساهمة في تحسين حياة الناس في زمن السلم، وفي نهاية المطاف، تغيير عالمنا إلى الأبد.

صاروخ V-2

كان الصاروخ V-2 أول صاروخ باليستي في العالم، تمَّ تعيينه رسميًا بإسم فيرجيلتونزاف 2 (Vergeltungswaffe 2) أو ريتريبوتيون ويبون 2 (Retribution Weapon 2)، وتم تصميمه بشكل رئيسي من قبل النازيين ووافن-إس إس (Waffen-SS) زميل الفيزيائي الشهير فيرنر فون براون (Wernher von Braun).

كان هدفه الرئيسي هو التسبب في تدمير شامل لمدن الحلفاء انتقامًا من قصف الحلفاء للمدن الألمانية، ابتداءً من سبتمبر 1944، أرسل الألمان أكثر من 3000 صاروخ V-2 باتجاه لندن، وأنتويرب، ولييج، وذكرت هيئة الإذاعة البريطانية أنَّ حوالي 9 آلاف شخص لقوا مصرعهم مع 12 ألف آخرين من معتقلي معسكرات الاعتقال والعمال القسريين الذين يموتون خلال عملية التصنيع.

وبما أن آلة الحرب الألمانية كانت في خضم وفاتها، كان فون براون وفريقه يعرفون أن لعبتهم قد انتهت، ولم يرغبوا في الاستسلام للسوفييت، بل قاموا بدلًا من ذلك بتصنيع استسلامهم للأميركيين في مايو 1945. وجد شقيق فون براون -وهو أيضًا عالم صواريخ- وجد جنديًا من فرقة المشاة 44 الأمريكية، صاح ماغنوس بلغة إنكليزية متعرجة: «إسمي ماغنوس فون براون، اخترع أخي صاروخ V-2 نريد الاستسلام».

فَهِم الأمريكيون على الفور من لديهم، وكان إسم العالِم على رأس قائمة الأشخاص المستهدفين للاستجواب الفوري، وفي إطار ما أصبح يعرف بإسم عمليّة مشبك الورق، تم نقل فون براون وفريقه من المتخصصين إلى الولايات المتحدة، بعد أن تمّ «تبييض» انتماءاتهم النازية من السجلات الرسمية، بما في ذلك إنشاء تاريخ عمل وهمي وشطب عضوية الحزب، تم تخويلهم من قِبَل أجهزة الأمن الأمريكية للعمل في الولايات المتحدة.

أثناء عمله على برنامج الصواريخ الباليستية للجيش، تم دمجه هو وفريقه مع وكالة ناسا، أصبح مدير مركز مارشال لرحلات الفضاء وساعد في تطوير رحلة ساتورن 1B، وربما الصاروخ الأكثر شهرة من كل منهم، صاروخ ساتورن الخامس الذي حمل نيل أرمسترونج و باز ألدرين إلى القمر في يوليو 1969.

البنسلين

مثل العديد من الاختراعات الأكثر أهمية في العالم كالأشعة السينية، وأفران الميكروويف، ومادتي التفلون والفيلكرو، إنشاء البنسلين كان ضربة حظ.
اشتهر العالم الاسكتلندي السير ألكسندر فليمينغ (Sir Alexander Fleming) بتركه مستعمرات من البكتيريا المكورة العنقودية على مكتبه، ولدى عودته من العطلة، لاحظ أن أحد الأطباق البترية شكَّل فطرًا، وأنَّ البكتيريا المحيطة بالفطر كانت قد قُتِلَت.

عندما لاحظ فليمينغ الطبق البتري يتغيير قال: «هذا مضحك …»

تطوير هذا «القالب» الذي أُطِلق عليه البنسلين، كما جاء من جنس البنسليوم، قاده إلى إدراك أنه يمكن أن يدمر البكتيريا المسببة للأمراض، ونشر اكتشافه في عام 1929 في مجلة علم الأمراض التجريبية.

في البداية، لاقت هذه المادة اهتمامًا قصير الأمد، لكن فليمينغ استمر وعمل مع الكيميائي هوارد فلوري (Howard Florey) لمعرفة ما إذا كان يمكن تنقيح المادة، وعندما تخلى فليمينغ عن البنسلين، قام فلوري وفريقه بإنتاجه بشكل كبير بمنح من الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا، ووضع مجلس الإنتاج الحربي الأمريكي خطة لتوزيعه على نطاق واسع على القوات المتحالفة التي تقاتل في الحرب في أوروبا، تم إنتاج 2.3 مليون جرعة في الوقت المناسب الذي لا يزال يعرف بيوم النصر في عام 1944.

وبعد أكثر من 12 شهرًا كان يتم إنتاج 646 مليار وحدة من البنسلين سنويًا (كانت نسخة عام 1945 تقريبًا 20 ضعفًا أقوى من نسخة عام 1939)، وكان يستخدمها الأطباء الميدانيون بشكل جماعي لتفادي العدوى والأمراض.

من الصعب إعطاء تقدير حول عدد الأرواح التي تم إنقاذها بسبب طريقة إدارة البنسلين، ولكن من الآمن القول أنه خلال الحرب وخلال السبعين عامًا، نجح البنسلين في إنقاذ حياة الملايين من البشر وما زال يفعل ذلك.

البروفسور تشارلز فليتشر، أول طبيب لإدارة البنسلين للمريض، قال: «من الصعب نقل الإثارة التي تشهد القوة المذهلة من البنسلين أثناء قضائه على الالتهابات التي كانت سابقًا من غير أي علاج فعّال».

كشف موجات الراديو والرنين

أو كما يُعرَف عالميًا بالرادار، كان الرادار في مراحله الأولى في بداية الحرب العالمية الثانية، تم تطويره بشكل مستقل من قبل كل من الحلفاء والمحور في منتصف ثلاثينيات القرن الماضي، في حين أنَّ النظام البريطاني -المعروف بإسم (جهاز تحديد المدى والتوجيه – Range and Direction Finding) أو اختصارًا يُعرف بـ(RDF)- كان يعمل بكامل طاقته، فإن النسخة الألمانية (فونكمسجيرات – Funkmessgerät) تم تجاهلها إلى حدٍ ما من قبل هتلر بسبب موقفه من التدابير الدفاعية ومحاولات لوفتواف الكئيبة لإدماج الأنظمة الجديدة.

في الوقت نفسه، كان يجري تطوير أنظمة الرادار من قبل أستراليا وكندا والاتحاد السوفييتي واليابان ونيوزيلندا وجنوب أفريقيا.

من خلال استقبال موجات الراديو المنعكسة عن الأجسام المتحركة كان بالإمكان تحديد سرعة الأجسام بدقة وارتفاعها واتجاهها ومداها ايضًا، تم التخفيف من العنصر القديم المعروف بالهجوم المفاجئ، وازداد محيط الحرب في الهواء بشكل كبير، وإدراكًا منّا بأن الولايات المتحدة الأمريكية كانت حليفًا حيويًا -ليس فقط كقوة قتاليّة بل أيضًا كشركة مصنعة- فقد شارك رئيس الوزراء ونستون تشرشل الأسرار التكنولوجية البريطانية مع الولايات المتحدة الأمريكية مقابل قوتها العسكرية.

واعتمد الرادار المبكر على بلورة شبه موصلة (مقدمة لراديو الترانزستور)، ومع تطوّر التكنولوجيا، سمح الرادار للبلدان برصد وتتبع الهجمات من الهواء، وتوجيه القنابل نحو وجهات محددة، وصواريخ مضادة للطائرات مباشرة باتجاه أهدافها المحمولة جوًا، وبالإضافة إلى ذلك، استخدم خبراء الأرصاد الجوية هذه التكنولوجيا لتتبع نظم الطقس، التي أصبحت بعد هذا أداة حيوية في القدرة على التخطيط الدقيق للعمليات العسكرية.

فضلًا عن كونه نعمة كبيرة عند السعي وتدمير أهداف العدو، يمكن أيضًا أن تستخدم إشارات الرادار كشكل من أشكال أجهزة الملاحة، من خلال قياس المسافة من منارات محددة، يمكن للسفن والطائرات «تثليث» المواقع.، في نفس الوقت تقريبًا، تم تطوير ملاحة راداريّة أرضيّة تُعرَف بإسم (لوران – LORAN) أو (الملاحة طويلة المدى – long range navigation) في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا للسفن والطائرات التي بإمكانها تحديد الأجسام ضمن مسافة 600 ميل من الساحل الأمريكي، وأصبحت هذه التقنية أكثر دقة تدريجيًا على مدى السنوات القليلة التالية.
لوران لا تزال تستخدم من قبل السفن اليوم، ليس هذا فقط، ولكن تمّ نقل التكنولوجيا أيضًا إلى أسس الإلكترونيات الحديثة بما في ذلك التلفزيون.

على مر السنين ومنذ الحرب، وُضِعت تكنولوجيا الرادار كعنصر حيوي في العديد من النظم التكنولوجية الأكثر تطورًا في العالم، وتشمل هذه التدابير مراقبة الحركة الجوية، وعلم الفلك، والدفاع الجوي، وأنظمة المناظير، ومراقبة المحيطات، ورصد الأرصاد الجوية، واختراق الأرض الجيولوجية.

ولعلّ أكبر إرث من هذه التكنولوجيا في زمن الحرب هو تطورها في نهاية المطاف إلى الملاحة بواسطة الأقمار الصناعية (ساتناف – Satnav) وتكنولوجيا الـ(GPS).

الوقود الاصطناعي

الحروب الآلية لا يمكن أن تخاض من دون نفط، هذه هي الحقيقة بكل البساطة، وهكذا، عندما أدركت ألمانيا أن لديها مخزونًا من 15 مليون برميل فقط وهي على وشك غزو نصف العالم في حرب استمرت ست سنوات، فإنها هنا بحاجة إلى اتخاذ إجراءات احترازية، فقاموا باستوراد الوقود من الاتحاد السوفييتي ورومانيا، ونهبوا ما يقارب خمسة ملايين برميل خلال الجزء الأول من الحرب.

لا يثير الدهشة أن هتلر لم يكن يريد أن تعتمد ألمانيا على أي شيء أجنبي، وهذا يشمل النفط، وقد حسب الألمان بأنهم يحتاجون قرابة 7.25 مليون برميل في الشهر، ومع ذلك، فإن الإنتاج المحلي كان يتراوح ما بين 5.35 مليون برميل في الشهر فقط، مع هذا الحال كانت إمدادات النفط ستنفذ بحلول أغسطس 1941.

كان الألمان يائسين، وكانوا بحاجة إلى وسيلة للحصول على الوقود الاصطناعي لتشغيل آلاتهم الحربية، وكان الجواب هو مزيج من استر حمض الأديبيك وزيت البولي ايثيلين التي ساعدت على إبقاء طائرة اللوفتواف تطير والدبابات الألمانية والمركبات الأخرى تتحرك.

كان الأمريكيون يقومون أيضًا بتطوير الوقود الاصطناعي والمطاط في ذلك الوقت -كانت قوى المحور تسيطر على غالبية إمدادات المطاط الطبيعي في العالم- وساعد بديل النفط الذي أنشأوه في البداية على تسهيل بدء تشغيل محركات الطائرات الباردة، وخفض تكلس رواسب السخام في مشعات النفط.

في صيغ وتركيزات مختلفة، يستخدم الوقود الصناعي في السيارات والطائرات والقوارب، وفي معظم المركبات، بالإضافة إلى دوره في عمليات التصنيع على نطاق واسع، ومع تناقص الاعتماد العالمي على الوقود الأحفوري والجدل الدائر حول التكسير*، سيستخدم الوقود الاصطناعي بشكل متزايد بفضل التكنولوجيا التي تم تطويرها خلال الحرب العالمية الثانية.

الحاسوب

أجهزة الكمبيوتر، كما نعرفها اليوم، هي آلات معقدة للغاية ومتطورة مع قوة معالجة هائلة جدًا، ومع ذلك، فإننا مدينون بكامل عالمنا الذي يعمل بالكمبيوتر إلى التكنولوجيا التي تم تطويرها قبل الحرب العالمية الثانية وأثناءها.

تم تطويرها خصيصًا لكسر الرموز الألمانية من آلات الشفرات، كان كولوسوس (Colossus) أول كمبيوتر قابل للبرمجة الرقمية والإلكترونية، وكان يعمل في (Bletchley Park)، ومؤسسة (the Government Code)، ومدرسة (Cypher)

كان يستخدم حوالي 1,600 أنبوب مفرغ من الهواء لقراءة الشريط الورقي، ومن ثم تطبيق وظائف منطقية للقضاء على الرموز الألمانية، لم يتم تصميمه مع أي ذاكرة تخزين داخلية، لجميع المهام الجديدة، تمّ تغيير سلسلة من المقابس والمفاتيح لتغيير الأسلاك، وتمّ تصميم هذا الحاسوب لوظيفة واحدة فقط ، وهي تقصير فترة الحرب، والتي بدورها حققت ذلك (وفقًا للخبراء) بتقصير مدة الحرب لمدة ما بين سنتين إلى أربع سنوات.

صنع الأميركيون في وقت لاحق (Electronic Numerical Integrator And Computer) الذي يُعرف بإختصار (ENIAC) الذي كان سببًا لظهور أجهزة الكمبيوتر المتعددة الأغراض وكنت على الأرجح غير قادر على قراءة هذه المقالة الآن، وكما كولوسوس، كانت هذه الحواسيب رقمية وبرمجية، ولكن على عكس كولوسوس، كان يمكن إعادة برمجتها لحل ما كان يسمى بـ(فئة كبيرة من المشاكل العددية).

تمّ تصميم (ENIAC) لحساب جداول إطلاق المدفعيّة، وكان يستخدم لإجراء دراسة جدوى على القنبلة الهيدروجينية، ولكن على الرغم من أنه استخدم خلال الحرب، لم يعلن عن (ENIAC) حتى انتهاء الحرب، وكان العلماء والمهندسون متحمسين جدًا لإمكانية آلة قابلة للبرمجة لأغراض عامة، وهذه القدرة الحسابية الكبيرة آنذاك.

في حين أن هذه الآلات مهدت الطريق لما جاء بعدها، المبادئ الأساسية لأجهزة الكمبيوتر اليوم ترجع لرجل واحد وهو العالِم آلان تورينغ (ِAlan Turing)، كانَ آلان عالِم كمبيوتر، وعالِم رياضيات، وعالِم منطق وتشفير -وكذلك واحد من المهندسين المعماريين الرئيسيين لكسر رمز شفرة في هت 8 (Hut 8) الشهيرة في بليتشلي بارك- الذي كان يفكر بالسيطرة على عمليات الكمبيوتر عن طريق برنامج يحتوي على تعليمات مشفرة مخزنة في ذاكرة الجهاز.

سيكون من المستحيل إدراج التطبيقات العملية لعلوم الحاسوب، فإنه يغزو تقريبًا كل ما نقوم به، نراه ونستخدمه، الصناعة والطب والتعليم والعلوم والرياضة والفنون والتمويل والتصنيع – كل ذلك يستخدم علوم الكمبيوتر بفضل الرجال أمثال آلان تورينغ.


  • ترجمة: ليث أديب صليوه
  • تدقيق: صهيب الأغبري
  • تحرير : رغدة عاصي
  • المصدر