شرح مثير عن الحوسبة الكمومية

يتباهى عالَم العلوم والتكنولوجيا بالحواسيب الكموميّة منذ سنوات، ولكن هذه الأجهزة لم تؤثر بعد على حياتنا اليوميّة، يمكن لنُظُم الكم أنّ تشفّر البيانات بسلاسة، وتساعدنا على فهم كميّة البيانات الضخمة التي جمعناها مسبقًا، ويمكنها حل المشاكل المعقدة التي لا تستطيع حتى أكثر الحواسيب فائقة القوة حله، مثل التشخيص الطبي وتنبؤات الطقس.

اقترب هذا المستقبل الكمومي الغامض خطوة في شهر تشرين الثاني/نوفمبر من العام الماضي، عندما نشرت مجلة الطبيعة (Nature) ورقتين تظهران بعض الأنظمة الكمومية الأكثر تقدمًا حتى الآن.

إن كنت لا تزال لم تفهم ما هو الحاسوب الكمومي، ما يفعله، أو ما يمكنه القيام به من أجلك، فلا تخشى ذلك، فقد تحدث أحد الصحفيين مؤخرًا مع ميخائيل لوكين (Mikhail Lukin)، أستاذ الفيزياء في جامعة هارفارد ومن كبار مؤلفي أحد هذه الأوراق، عن الحالة الراهنة للحوسبة الكمومية، وعن الوقت الذي سنملك فيه التقنيّة الكموميّة على هواتفنا وحواسيبنا المكتبيّة، وكم سيستغرق ذلك حتى يحدث، وننقل هنا هذا الحوار الصحفي مع ميخائيل لوكين.

(تم تعديل هذه المقابلة قليلًا من أجل الوضوح والإيجاز)

الصحفي: بدايةً هل يمكنك أن تعطني شرحًا بسيطًا لكيفيّة عمل الحوسبة الكموميّة؟

ميخائيل لوكين: لنبدأ بكيفيّة عمل الحواسيب الكلاسيكيّة، ففي الحواسيب الكلاسيكيّة يمكنك صياغة أيَّ مشكلة تريد حلها على شكل بعض المدخلات، والتي هي في الأساس تيار من 0 و1.

عندما تريد القيام ببعض الحسابات تقوم أساسًا بإنشاء مجموعة معينة من القواعد اعتمادًا على كيفية تحرك هذا التيار فعليًا. هذه هي العمليات الحسابيّة (جمع، ضرب، ..إلخ).

لكننا نعرف منذ أكثر من 100 سنة أنَّ عالمنا المجهري هو أساسًا ميكانيك كمومي، وفي ميكانيك الكم يمكن أن يكون لديك عدّة أنظمة، فعلى سبيل المثال يمكن أن يكون حاسوبك -أو حتى الكرسي- في حالتين مختلفتين في وقت واحد، وهذه هي فكرة تراكب الكم، أو بعبارة أخرى يمكن أن يكون حاسوبك في كل من بوسطن ونيويورك في الوقت ذاته، تسمح قوانين ميكانيك الكم بهذا التراكب على الرغم من أنه يبدو غريبًا جدًا.

من الواضح أن التراكب على نطاق كبير -كالمثال السابق- غريب جدًا، ولكن في العالم المجهري على مستوى ذرة واحدة يكون هذا النوع من التراكب أمرًا مألوفًا جدًا، وأثبت العلماء من خلال إجراء هذه التجارب العلمية توضع ذرة واحدة في مكانين مختلفين في آن واحد.

فكرة الحواسيب الكموميّة في الأساس هي الاستفادة من قواعد ميكانيك الكم لمعالجة المعلومات، ومن السهل فهم مدى قوة ذلك.

في الحواسيب الكلاسيكيّة كنت تزودني بمدخلات معينة وأنا أقوم بوضعها في الحاسوب الخاص بي وأعطيك النتائج، ولكن لو كانت أجهزتنا تعمل بميكانيك الكم، فبدلًا من مجرد إعطاء المدخلات بالتسلسل وقراءة النتائج، يمكنني إعداد الحاسوب للتراكب الكمومي لعدّة أنواع مختلفة من المدخلات.

وهذا يعني أنه إذا تمت معالجة حالة التراكب باستخدام قوانين ميكانيك الكم فيمكنني معالجة العديد من المدخلات في آن واحد، ومن المحتمل أن يكون ذلك خارق السرعة مقارنة مع البرامج الكلاسيكية.

الصحفي: كيف يبدو شكل الحاسوب الكمومي؟

ميخائيل لوكين: إذا كنتَ ستدخل لغرفة فيها حاسوب كمومي سترى حُجرة أو أنبوب مفرغ وبعض أشعة الليزر تتألق داخله، في الداخل لدينا كثافة منخفضة جدًا من ذرة معينة، ونستخدم الليزر لإبطاء الحركة الذرية لتصبح قريبة جدًا من الصفر، وهو ما يسمى التخميد بالليزر.

الصحفي: كيف يمكنك كتابة البرامج؟

ميخائيل لوكين: لبرمجة حاسوب كمومي نطلق مئة حزمة ليزرية مركزة بإحكام في هذه الحجرة المفرغة (الحاسوب). كل من هذه الحزم الليزرية بمثابة مدفع بصري، ربما تنتزع إحدى الذرات أو لا، لدينا حجرات ذرية منها تحوي ذرات ومنها فارغة، ثم نأخذ صورة لهذه الذرات في الحجرات، ونكتشف أي الحجرات مليئة وأيها فارغة، ثم نعيد ترتيب الحجرة التي تحتوي على ذرة واحدة في أي شكل نريد، يتمّ تشكيل هذا الترتيب المطلوب من ذرات واحدة كل منها على حدة توضع في مكانها ويسهل التحكم بها.

ترتيب هذه الذرات هو أوّل طرق البرمجة الممكنة، ومن أجل السيطرة فعليًا على البت الكمومي -البت الكمومي (qubit) هو الواحدة التي تشكل الأساس في الحواسيب الكمومية مثل البت في الحواسيب الكلاسيكية- ندفع بلطف وعناية الذرات من حالة طاقة منخفضة إلى حالة طاقة أعلى، ونفعل ذلك بحزم ليزر مختارة بعناية تُطلق لتقوم بإنتقال طاقة محدد، يتم التحكم بترددات الليزر بعناية فائقة، في هذه الحالة المثارة تصبح الذرة في الواقع كبيرة جدًا، وبسبب هذا الحجم، تبدأ الذرات بالتفاعل، أو بعبارة أخرى تتحدث مع بعضها البعض.

وعن طريق اختيار حالة إثارة الذرات واختيار الترتيب والموقع يمكننا برمجة التفاعل بطريقة يمكن السيطرة عليها تمامًا.

الصحفي: ما هي أنواع التطبيقات التي يمكن أن يكون الحاسوب الكمومي أكثر إفادة بها؟

ميخائيل لوكين: لأكون صادقًا نحن حقًا لا نعلم الجواب، ويُعتقد عمومًا أنَّ أجهزة الحواسيب الكمومية لن تساعد بالضرورة في جميع المهام الحسابية، ولكن يوجد مسائل صعبة رياضيًا حتى على أفضل الحواسيب الكلاسيكيّة، وعادةً ما تحتوي على بعض الأفكار المعقدة، مثل مسائل تحديد الخيار الأفضل المعقدة التي تحاول تلبية عدد من القيود المتناقضة.

لنفترض أنك تريد أن تقدم نوعًا من الهدايا لمجموعة من الناس، كل واحد منهم لديه شكله الخاصة، بعض الأشكال قد تكون متناقضة، لذلك ما يحدث هو إذا كنت تريد حل هذه المشكلة بشكل كلاسيكي، تحتاج للتحقق من أنّ كل اثنين أو ثلاثة أشخاص على الأقل راضون.

التعقيد في هذه المشكلة ينمو بشكل كبير ومطرد لأن عدد المجموعات في الحل الكلاسيكي الذي يحتاج للتحقق ضخم جدًا، هناك اعتقاد بأنه يمكن للحواسيب الكمومية تقديم حلول لبعض هذه المشاكل.

وثمة مثال آخر معروف جيدًا هو القسمة دون باقي، إذا كان لديك عدد صغير مثل 15 فمن الواضح أن قواسمه هي 3 و5، ولكن هذا النوع من المسائل تتعقد بسرعة كبيرة مع كبر العدد، إذا كان لديك عدد كبير هو نتاج ضرب اثنين من الأعداد الأولية الكبيرة، فبالطريقة الكلاسيكيّة ليس هناك وسيلة أفضل للعثور على هذه القواسم من مجرد تجريب الأرقام من واحد، اثنان، ثلاثة، وهلمّ جرا، ولكن اتضح وجود خوارزميّة كموميّة تدعى خوارزميّة شور (Shor’s Algorithm)، والتي يمكنها العثور على العوامل أسرع بكثير من الخوارزميّات الكلاسيكيّة المعروفة، إن كنت تستطيع أن تفعل شيئًا بشكل أسرع بكثير من الشكل الاعتيادي فهذا مكسب كبير.

الصحفي: يبدو أن مهمتك وزملاء مجال عملك هو أن تساعدونا في فهم هذه التقنيّة، ولكن التطبيقات تعتبر شيء ثانوي وستأتي عندما يكون لديكم الأدوات، هل يبدو هذا منصفًا؟

ميخائيل لوكين: سوف أجيب على سؤالك بمقارنة، عندما تم تطوير أجهزة الحاسوب الكلاسيكيّة لأوّل مرة كانت تُستخدم في الغالب للقيام بالحسابات العلمية والتجارب العددية لفهم سلوك النظم الفيزيائية المعقدة، الآن الآلات الكموميّة في هذه المرحلة من التنمية، إنّها تساعدنا لدراسة الظواهر الفيزيائيّة الكموميّة المعقدة، هي مفيدة للأغراض العلمية، والعلماء يستفيدون منها الآن.

في الواقع تشير إحدى أهم الأوراق -التي نشرت في مجلة الطبيعة- إلى أنه بالفعل تم بناء آلات كمومية، وهي كبيرة ومعقدة وكمومية بما فيه الكفاية للقيام بالتجارب العلمية الصعبة جدًا لدرجة أنه من المستحيل أن تقوم بها أفضل الحواسيب الكلاسيكية وحتى الحواسب العملاقة، وقد استخدمنا آلتنا الكموميّة في عملنا لنحقق اكتشاف علمي، والذي لم يتحقق من قبل بسبب صعوبة نمذجة هذه الأنظمة على الحواسيب الكلاسيكيّة، نحن الآن نتجاوز بطريقة ما عتبة استثمار الأجهزة الكمومية، للأغراض العلمية على الأقل.

عندما كنا بمرحلة اختراع الحواسيب الكلاسيكيّة، كان للناس بعض التساؤلات حول الخوارزميات التي ستعمل عليها، ولكن اتضح هذا الأمر بمجرد بناء أول حاسوب، وتمكن الناس من التجربة على تلك الحواسيب واكتشاف الكثير من الخوارزميات المناسبة للعمل. وبعبارة أخرى، اكتشف الناس ماذا يمكن أن تفعل هذه الحواسيب لهم.

وهذا سبب قولي أننا حقًا لا نعرف الآن المهام الرئيسية التي ستساعدنا بها الحواسيب الكموميّة، الطريقة الوحيدة لمعرفة ذلك هي بناء حاسوب كمومي ضخم وفعّال، وهذا هدف مهم، ويجب أن أقول أننا نبدأ بهذه المرحلة الآن، نحن قريبون جدًا من مرحلة يمكننا فيها بدأ تجريب الخوارزميات الكمومية على آلات كمومية كبيرة.

الصحفي: حدثني قليلًا حول الورقة العلمية التي نشرتها، ما هو التقدم الحقيقي فيها؟ وما مدى قربنا من القدرة على بدء اكتشاف خوارزميات تستطيع العمل على الحواسيب الكمومية؟

ميخائيل لوكين: لنتحدث بدايةً حول كيفية تعريف الحواسيب الكموميّة، سيكون ذلك على ثلاثة محاور مختلفة، المحور الأوّل هو مقياس عدد البتات الكمومية، فكلما زاد عددها كان ذلك أفضل.

المحور الثاني هو درجة التماسك الكمومية وهذا يشير لمدى تماسك هذه النُظم، في النهاية طريقة التعريف هي إذا كان لديك عدد معين من البتات الكمومية وتريد إجراء بعض الحسابات بها، فما هو احتمال أن هذه الحسابات خالية من الأخطاء؟

إذا كان لديك بت كمومي واحد فهنالك احتمال صغير للخطأ، وبمجرد ازدياد العدد فإن احتمال الخطأ يزداد بشكل متسارع، لذلك فإن الأنظمة الموضحة في أوراقنا العلمية لديها عدد كبير من البتات الكموميّة ومتماسكة بما فيه الكفاية لنتمكن ببساطة من إجراء سلسلة كاملة من الحسابات مع احتمال منخفض جدًا للخطأ، وبعبارة أخرى في عدد محدود من المحاولات يمكننا أن نحصل على نتيجة لا تحتوي أخطاء.

لكن القصة لم تكتمل بعد، فالمحور الثالث هو مدى براعتك في برمجة هذه الآلة، ببساطة إن كنت تستطيع أن تجعل كل بت كمومي يتفاعل مع أي بت كمومي آخر بطريقة اعتباطية سيمكنك ذلك أيضًا كتابة أي مسألة كمومية في هذه الآلة، تسمى هذه الآلات أحيانًا الحواسيب الكمومية العالمية، آلتنا ليست عالمية بشكل كامل، لكننا نثبت قابلية عالية جدًا للبرمجة، فيمكننا تغير نمط التواصل بسرعة عاليّة، وهذا في النهاية هو ما يسمح لنا بتحقيق اكتشافات جديدة حول ظاهرة الكمومية المعقدة.

الصحفي: هل يمكن تقليص حجم الحاسوب الكمومي إلى حجم هاتف أو أي شيء محمول في مرحلة ما؟

ميخائيل لوكين: هذا الأمر مطروح، وهناك طرق لتوضيبه بحيث يصبح محمولًا، وربما يمكن تقليص حجمه ليس بحجم الهواتف النقالة ولكن بحجم حاسوب مكتبي، ولكن من غير الممكن القيام بذلك في الوقت الحالي.

الصحفي: هل تعتقد أن الحواسيب الكمومية ستتحول من مجرد استخدامات علمية إلى المستخدم العادي مثل الحواسيب الكلاسيكية خلال 30 عامًا؟

ميخائيل لوكين: نعم، ولكن لماذا 30 عامًا؟ يمكن أن يحدث قبل ذلك بكثير.

الصحفي: ما الذي يجب تحقيقه لنصل إلى ذلك؟ ما هو نوع التقدم اللازم لنصل لهذه المرحلة؟

ميخائيل لوكين: أعتقد أننا بحاجة لبناء حواسيب كمية كبيرة أولًا وبعدها نبدأ بمعرفة بماذا يمكننا استخدامها، نحن لا نعلم حتى الآن ما هي قدرة الحواسيب الكموميّة، لذلك لا نعرف إمكاناتها الكاملة، أعتقد أن التحدي التالي هو فعل ذلك.

ستكون ‏المرحلة المقبلة للهندسة ولصناعة آلات يمكن استخدامها لاستهداف بعض التطبيقات المتخصصة، يعمل بعض الناس -بما في ذلك فريقي- على تطوير بعض الأجهزة الكمومية المصغّرة والتي صُممت للمساعدة في التشخيص الطبي على سبيل المثال، وفي هذه التطبيقات تقيس الأنظمة الكمومية الحقول الكهربائيّة أو المغناطيسيّة الصغيرة والتي تساعدك للتشخيص بكفاءةٍ أكثر، أعتقد أن هذه الأشياء قادمة، وبعض هذه الأفكار يتم تسويقها بالفعل.

بعد ذلك ربما يتم تسويق تطبيقات أكثر عمومًا، مِهنيًا من المرجح عمل الحواسيب الكمومية والكلاسيكية يدًا بيد، وفي الواقع على الأرجح أن معظم العمل سينجز عن طريق الحواسيب الكلاسيكية ولكن بعض المشاكل الصعبة يمكن حلها بواسطة الحواسيب الكمومية.

وهناك أيضًا مجال آخر يسمى الاتصالات الكموميّة حيث يمكنك ببساطة نقل الحالات الكموميّة بين محطات متباعدة، إذا كنت تستخدم الحالات الكموميّة لإرسال المعلومات يمكنك إنشاء خطوط اتصالات آمنة تمامًا. وأيضًا من خلال تلك الشبكات الكمومية -تسمى أحيانًا الإنترنت الكمومي- ينبغي أن نكون قادرين على الوصول للخوادم الكموميّة (quantum servers) عن بعد، وبهذه الطريقة يمكنني بالتأكيد تخيل العديد من الاتجاهات التي ستدخل بها الحواسيب الكموميّة حياتنا اليوميّة، حتى ولو لم تحملها في جيبك.

الصحفي: ما الأمر الذي ترغب بأن يصبح معروفًا عن الحواسيب الكموميّة؟

ميخائيل لوكين: نُشرَت أخبار عن الحوسبة والتكنولوجيا الكموميّة منذ فترة، ونحن العلماء نعلَم أنه مجال مثير، إنه الواجهة العلمية لكثير من البحوث العلمية في العديد من المجالات الفرعيّة، خلال الخمس إلى عشر سنوات الأخيرة يظن معظم الناس أنَّ التطورات التي تمت بعيدة التطبيق، كما يظنون أنَّ إنشاء أيّ آلة كموميّة مفيدة سيستغرق وقتًا طويلًا.

أعتقد أن الواقع ليس كذلك، فنحن بالفعل ندخل حقبة جديدة مع إمكانيات هائلة للاكتشافات العلمية، والتي قد توسّع مجال تطبيقات المواد العلمية -كالكيمياء وأي شيء يتضمن أنظمة فيزيائيّة معقدة- كما أشعر أننا في وقت قريب سنبدأ اكتشاف ما يمكن للحواسيب الكموميّة فعله على نطاقٍ أوسع، بدءًا من الحلول المثلى إلى الذكاء الاصطناعي وتعلُّم الآلة، وأعتقد أنها أمور قريبة.

نحن لا نعرف حتى الآن كيف ستفعل الحواسيب الكموميّة ذلك، ولكننا سوف نكتشف ذلك في وقت قريب جدًا.


  • ترجمة: حبيب بدران
  • تدقيق: صهيب الأغبري
  • تحرير: رغدة عاصي
  • المصدر