في حين أنّ معظم البشر يستخدمون أيديهم اليمنى بشكلٍ أساسيّ، فإنّ البروتينات المُكوِّنة لأجسامِنا مصنوعة مِن جُزيئاتٍ يساريّة. أي بنفس الطريقة التي تجعل يدك اليُمنى مرآءةً لليُسرى، والعكس بالعكس، الجزيئات يمكن أن تتجمّع بهيكلين مُنعكسين. الحياة تُفضِّل الشكل الأعسر (الأيسر)، وهذا مُحيّر، لأنّ الشكلين المُتعاكسين يتكوّنان بالتساوي في المختبر. لكن أظهرت دِراسة جديدة أنّ هذا يعود للسُحب المكوِّنة للنجومِ التي صَنعت أولى الجزيئات البيولوجيّة على الإطلاق، قبل أن تولد شمسنا حتى، جعلتها بشكلٍ أعسر.

في عام 2004، مركبة ناسا الفضائيّة (الغبار النجمي – Stardust) اجتاحت هالةً غامضةً مُحيطة بمُذنّب. وما وجدته كان أبسط الجُزيئات (اللبنات) المكوّنة للحياة: غليسين الأحماض الأمينية (amino acid glycine). المذنّبات هي عِبارة عن بقايا مُتجمّدة منذ الأيام الأولى في نظامِنا الشمسي. لذلك موادُها لم تُصنع في الكواكب، بل مِنَ المُرجّح أنّها مِن سحابة الغاز التي أنشأت شمسَنا.

أعاد فريقٌ مِن الباحثين صياغة الظروف المتجمّدة الموجودة داخل السحابة المُكوِّنة للنجوم. في جهازٍ معزولٍ تمامًا لتحقيق هذا الجو الهشّ في المختبر، ويُمكن تخفيض درجة الحرارة لِتصل إلى -263 درجة مئويّة، عشر درجات فقط فوق الصِفر المُطلق حيث تتوقف الجزيئات عن الاهتزاز. ويعتقد الباحثون أنّ على سطح حبيبات هذا الغبار البارد، خضع الغليسين لتغييرٍ جعله أعسرًا. (وتمثّل الصورة متماكبان ضوئيّان لحمضٍ أميني)

left

في صميم ونواة جزيئة الغليسين يوجد ذرّة كربون مع أربعة روابط. وتكون الجزيئة مُتناظِرة ومتماثلة (أي ليست يمناء ولا عسراء) إذا اتّحد الكربون الذي تكلّمنا عنه في بداية الفقرة مع ذرّات الهيدروجين. ومع ذلك، ما أن تستبدل ذرة الهيدروجين بذرة أثقل منها حتّى يتمّ كسر هذا التماثل. الجزيئة الواحدة يمكن أن تُكوِّن جزئيتان مُتعاكستين (أي نسخ متطابقة)، لِتُعطِيها خاصية الإنصاف أو الطغيان (Handedness) – وتعني الميل إلى استخدام إمّا اليد اليُسرى أو اليمنى بشكلٍ طبيعي أكثر من الأخرى، أو ما يسمّى بالكيمياء “الجزيء الكيرالي أو اليدواني” بالنّسبة إلى الجزيئات (عدم التناظر المرآتي – Chirality)

تشير التجارب إلى أنّ ذرّة الهيدروجين-غليسين يمكن أن تُستَبدل بذرة ديوتريوم، وهو نظير أثقل للهيدروجين يحتوي نيوترونًا إضافيًا في نواتهِ، ممّا يضاعف من وزنه. وهذه الذرة وفيرة في سُحب تكوين النجوم، ولهذا تُنتج العديد مِن مركبات الديوتريوم المخصّب (deuterium-enriched compounds)، مثل الماء الثقيل على سبيل المثال. ما أن يتم استبدال ذرة هيدروجين بذرة ديوتريوم، يصبح مِنَ الصعب جدًا إزاحتها. وهذا يعني أنّ كسر جزيء الغليسين المتناظر (الكيرالي) يزداد بشكلٍ مطرد، حتى يُظهر النوع الرئيسي داخل السحابة صِفة اليد اليُمنى أو اليسرى (Handedness).

الغليسين الكيرالي يشبه الأصلي إلى حدٍ كبير، لكن مع خاصية إضافية مهمة. التجارب المُختبرية أظهرت أن الغليسين الكيرالي يكون “عامل تفاعل مُحفّز” للجزئيات الكيراليّة الأخرى. وبهذا يعمل على تعزيز إنتاج أنواع أخرى بنفس صفة اليد ذاتها.

والنتيجة هي أنّه إذا أصبح الغليسين أعسرًا، فإنّ الجزيئات البيولوجيّة المستقبلية ستكون بشكل أعسر أيضًا. عِندما تطورت الحياة على الأرض، بُنِيت مِن تجمّع جزيئات عسراء، مما يعطيها التحيّز الذي نراه اليوم.

تعلّق الغليسين في الفضاء:

هذا الاكتشاف يحتمل حل مسألة أخرى، في حين أنّ الغليسين يُعتبر وفيرًا داخل سُحب توليد النجوم، لم تتم مُلاحظتهُ أبدًا. الجزيئات المفردة تمتص أطوالًا موجيّة مختلفة مِن ضوء النجم المار من خلالها. يعتمد الطول الموجي المُمتص على الذرات وترتيبها، مُعطيًا بصمة خاصة لكلّ جزيئة. بصمة الغليسين لم تُرَ أبدًا. ومع ذلك، عمليّات البحث هذه كانت تبحث عن الغليسين المُتناظر، وليس توأمه الأعسر. إذا كان أغلب الغليسين أعسرًا، فإنّهُ سيمتصّ طولًا موجيُّا مُختلِفًا، وستتمّ مُلاحظته.

إنّها فكرة مُثيرة، ولكن هناك العديد من التساؤلات لا تزال باقية. في التجربة الجديدة، تمكّن العلماء من القول بأنّ الديوتريوم استبدل الهيدروجين لتكوين الغليسين الكيرالي، لكنّ الكميات كانت صغيرة لِمعرفة أي مِن النُسخ المتعاكسة تم تكوينها.

يمكن أن تُحبّذ ذرات الغبار طُغيان صفة اليد اليمنى أو اليسرى. بدلًا مِن ذلك، كِلا النوعين يمكن أن يتشكلا، لكن أحدهما يكون تدميره أسهل. إجابة هذا التساؤل يمكن أن تخبرنا إذا كانت الحياة خارج مجموعتنا الشمسية ستُشاركنُا التحيز لليد اليُسرى.


 

المصدر