ولد المؤرخ والفيلسوف الفرنسي بول ميشيل فوكو في 15 أكتوبر سنة 1926 في مدينة بويتييرس الفرنسية وتوفي في 25 يونيو سنة 1984 في باريس، وهو من أكثر المفكرين تأثيرًا وإثارة للجدل في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية.

تعليمه ومسيرته المهنية:

وُلد لعائلة برجوازية كبيرة وكان والده طبيبًا وكذلك جده، وقد رفض فوكو ما عدّه تفكيرًا إقليميًا في نشأته وفي وطنه، فأمضى فترات طويلة من مسيرته المهنية يدرس في الخارج وكان متفوقًا دومًا وغريب الأطوار أحيانًا.

التحق في سن العشرين بالمدرسة العليا للأساتذة في باريس سنة 1946، حيث درس علم النفس والفلسفة، واعتنق الشيوعية ثم تركها. واكتسب سمعة العبقري المجتهد وعُرِف بغرابته أيضًا.

بدأ فوكو بعد تخرجه سنة 1952 مسيرة مهنية تميَّزت بالتنقل المستمر على الصعيدين الفكري والعملي. إذ درَّس في البداية في جامعة «ليل»، ثم أمضى 5 سنوات بين عامي (1955-1960) ملحقًا ثقافيًا في أوبسالا في السويد، ووارسو في بولندا وهامبورغ في ألمانيا.

ناقش رسالته في الدكتوراه في المدرسة العليا للأساتذة سنة 1961 ثم نُشرِت تحت عنوان: «الجنون واللامعقول: تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكي»، وحظيت بتقدير النقاد وإن لم يقرأها عدد كبير من الناس. وقد تُرجِمت نسخة مختصرة منها إلى اللغة الإنجليزية ونُشِرت سنة 1965 بعنوان: «الجنون والحضارة: تاريخ الجنون في عصر المنطق». وكان مصير أبحاثه ودراساته الأخرى التي نشرها في أثناء تدريسه في جامعة «كليرمون فيران» في فرنسا بين عامي (1960-1966) مشابهًا.

حظي ميشيل فوكو باهتمام واسع بعد ظهور كتابه «الكلمات والأشياء» الذي تُرجِم إلى الإنجليزية تحت عنوان «نظام الأشياء»، وأصبح أحد أهم مفكري عصره وأكثرهم إثارة للجدل. لكنه فضَّل مراقبة شهرته وهي تتسع من بعد من جامعة تونس حيث عمل بين عامي 1966-1968، وكان ما يزال في تونس عندما انطلقت الاحتجاجات الطلابية في باريس في ربيع سنة 1968.

ميشيل فوكو السيرة الذاتية - أكثر المفكرين تأثيرًا وإثارة للجدل في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية في فرنسا - تاريخ الجنسانية في الغرب

نشر سنة 1969 كتابه «حفريات المعرفة»، ثم مُنِح بعد فترة قصيرة من عمله مديرًا لقسم الفلسفة في جامعة باريس فينسيس، مُنِح كرسي البحث العلمي في تاريخ أنظمة الفكر في كوليج دو فرانس، وهي أكثر مؤسسة مرموقة للتعليم الجامعي في فرنسا، وقد أعطى المنصب الجديد لفوكو الفرصة لإجراء مزيد من الأبحاث المكثفة.

كتب فوكو العديد من الأعمال في الفترة ما بين (1971 -1984م) من بينها كتاب «التهذيب والعقاب: ولادة السجن» عام 1975، وهو دراسة حول نشأة نظام السجن الحديث، بالإضافة إلى ثلاث مجلدات عن تاريخ الجنسانية في الغرب والكثير من المقالات.

استمر فوكو في أسفاره الكثيرة، وأمضى مع زيادة شهرته فترات طويلة في البرازيل واليابان وإيطاليا وكندا والولايات المتحدة. وارتبط ارتباطًا خاصًا ببيركلي وكاليفورنيا وخليج سان فرانسيسكو حيث كان محاضرًا زائرًا في جامعة كاليفورنيا بيركلي سنوات عدة.

توفي بتسمم الدم الناتج عن إصابته بالإيدز سنة 1984 وكان المجلد الرابع من «تاريخ الجنسانية» ما يزال غير مكتمل.

تأثيره:

حظيت أعمال ميشيل فوكو بكثير من القراءة والنقاش، وكان له جيش عريض من المنتقدين ممن أساءوا فهم كتاباته. فاتُهم لنقده الإنسان بمناهضة الإنسانية، وبالنسبية المتطرفة لنقده قوة المعرفة، وبالتعصب للفلسفة الجمالية بسبب كتاباته في الأخلاق.

ومع كل ذلك، فقد استلهم المفكرون من كتابات فوكو بدائل متزايدة الأهمية لممارسات فكرية وثقافية كانت راسخة تاريخيًا. وما تزال تحليلات فوكو للماركسية تثير حفيظة نشطاء اليسار في فرنسا والأمريكيتين وتلهمهم في الوقت ذاته. وتَدين أيضًا حركة معارضة الطب النفسي في سبعينيات وثمانينيات القرن العشرين لأفكار فوكو بالكثير رغم أنه لم يكن يعد نفسه واحدًا من أعضائها.

وقد أثار نقده للعلوم الإنسانية كثيرًا من البحث عن الذات ضمن علوم الأنثروبولوجيا والمجالات المتعلقة بها، وساهم في ظهور جيل جديد من المفكرين الذين بدأوا حوارًا بين الثقافات دارت مواضيعه حول الهيمنة والذاتية.

أثر شرح فوكو للأبعاد الكثيرة والدقيقة للتهذيب والسياسة الحيوية تأثيرًا ملحوظًا في الدراسات الحديثة عن الاستعمار والقانون والتكنولوجيا والجنس والعرق. وأصبح المجلد الأول من تاريخ الجنسانية أساسيًّا في دراسات المثليين ونظرية «أحرار الجنس» وهي دراسة متعددة الاختصاصات تهدف إلى إجراء تحقيقات نقدية للمفاهيم التقليدية للهوية الجنسية والجنسانية. ورسَخت بفضله مصطلحات: «الخطاب وعلم الأنساب وقوة المعرفة» في قاموس الأبحاث الاجتماعية والثقافية المعاصرة.

جذبت حياة فوكو اهتمام كثير من كتاب السيرة الذاتية، وسخر بعضهم من معارضته لمحاولاتهم فهم شخصيته وخصائصه النفسية، إذ كانت حياة فوكو موضوعًا شيقًا ومثيرًا للاهتمام.

جعل فوكو القضايا التي عاناها شخصيًا مثل المعاناة العاطفية والاستبعاد الاجتماعي والميول الجنسية موضوعات لبحثه، وكان نقده نظريًا وعمليًا في الوقت نفسه، فلم يكتب مثلًا عن السجون فقط بل نظم مظاهرات ضد الأوضاع في السجون.

عندما كان فوكو في إسبانيا سنة 1975 للمشاركة في الاحتجاجات ضد حكم إعدام وشيك التنفيذ أصدرته حكومة «فرانشيسكو فرانكو» بحق اثنين من منظمة الإيتا «الحركية الانفصالية الباسكية»، واجه فوكو رجال الشرطة الذين حضروا لمصادرة منشورات الاحتجاج التي أعدها. وهاجم علنًا «جان بول سارتر» في وقت كان المثقفون الباريسيون فيه ما يزالون يعدونه إلهًا.

كان رغم رفضه لوصف «مثلي» مثليًا صريحًا، امتدح أحيانًا ملذات السادومازوخية والحمامات العامة. وكان أنيقًا حليق الرأس يحب ارتداء الملابس ذات اللونين الأبيض والأسود، وقد أقرَّ بتجربته المخدرات، وقال إن وجبته المفضلة هي الكلوب ساندويتش مع الكولا (وهو اختيار مهين خاصة بالنسبة للشعب الفرنسي الذواق).

حصل ميشيل فوكو على شهرته من تحطيمه الثوابت كلها، وإن لم يحتوِ فكره ولا حياته على مبادئ موضوعية واضحة كتلك التي يتمتع بها عادة نشطاء التغيير، إذ كان مشككًا بالحكمة والأخلاقيات التقليدية مع بعض الاستثناءات، وكان ساخرًا ولكن بحدود.

حطَّم الثوابت لكنه لم يكن ثوريًا، فقد رفض حتى محاولة تقديم إجابة لسؤال «فلاديمير لينين» الكبير «ما العمل؟»، بل أصر على طرح السؤال بطريقة محددة وأكثر محلية: «ما العمل في مواجهة ظروف محددة لزيادة قدرات الإنسان من دون أن يؤدي ذلك إلى زيادة الاضطهاد والقمع؟».

لم يكن دومًا واثقًا من وجود إجابة مباشرة لأسئلته، لكنه حرص بكل جهده سواء كانت المشكلة التي يبحث عن إجابة لها مشكلة شخصية أو عامة، أن ينأى بنفسه عنها بما يكفي ليستطيع البحث عن إجابة لها بذكاء وموضوعية.

اقرأ أيضًا:

سايكولوجيا السادومازوخية

ترجمة: نيفين الشلي

تدقيق: تسبيح علي

مراجعة: وئام سليمان

المصدر