أسس البحارة الفينيقيون قرطاجة في الموقع الذي تشغله اليوم مدينة تونس، فأصبحت مركزًا تجاريًا مهمًا ومؤثرًا في غرب البحر المتوسط، ثم خاضت سلسلةً من الحروب ضد الرومان أدت في النهاية إلى تدميرها.

استوطن الفينيقيون أولًا مجموعة من الدويلات الممتدة من جنوب شرق تركيا حتى فلسطين، وكانوا بحارةً قديرين يهوون الاستكشاف، فجابوا البحار البعيدة حتى بلغوا شمال أوروبا وغرب إفريقيا، وأقاموا مستوطنات جديدة على سواحل البحر المتوسط في الألفية الأولى قبل الميلاد.

أطلال قرطاجة القديمة في تونس حاليًا

أطلال قرطاجة القديمة في تونس حاليًا

كانت قرطاجة إحدى هذه المستوطنات، وقد أطلق الفينيقيون عليها اسم (قرت حدشت) بمعنى المدينة أو القرية الحديثة، وأقاموها على مُلتقى طرق التجارة المتجهة من الشرق إلى الغرب عبر المتوسط، ومن الشمال إلى الجنوب بين أوروبا وإفريقيا، وتكلم سكانها اللهجة (البونية)، إحدى لهجات اللغة الفينيقية.

عبد أهل قرطاجة إلهين رئيسيين هما (بعل حمون) وقرينته (تانيت)، ويوضح ريتشارد مايلز في كتابه (سقوط قرطاجة) معنى كلمة (بعل) فيقول إنه (السيد) أو (الرب)، أما (حمون) فقد يكون مُشتقًا من كلمة فينيقية تعني (حار) أو (مُحرِق)، ويذكر مايلز أيضًا أن بعل حمون كان يُصوَّر غالبًا في شكل هلال، في حين تُصَور قرينته تانيت بذراعين ممدودتين.

المدينة

تشير أقدم الأدلة الأثرية إلى أن بناء قرطاجة بدأ سنة 760 ق.م، واتسعت رقعتها بسرعة حتى أصبحت مساحتها المسكونة 25 – 30 هكتارًا، أي ما يعادل ربع إلى ثلث كيلو متر مربع، وأحاطت بالمدينة مقبرة كبيرة، وفقًا لروالد دوكتر من جامعة جنت.

وفي غضون قرن، بُنيت للمدينة أسوار وميناء و(توفت)، وهو بناء في جنوب شرق قرطاجة اختلف المؤرخون حوله، فقد يكون مكانًا لتقديم القرابين البشرية، أو مقبرةً من نوع خاص.

شُيدَت في قرطاجة سوق كبيرة بجانب البحر (أطلق عليها الإغريق اسم أغورا)، وتطورت أكثر في القرون اللاحقة، يقول ديكستر هويوس، البروفيسور في جامعة سيدني في كتابه (القرطاجيون): «إلى جانب دورها بوصفها سوقًا تجارية، كانت مكانًا يحشد فيه الحكام المواطنين للاقتراع وسنّ القوانين».

أصبح النظام السياسي في قرطاجة بحلول عام 500 قبل الميلاد أقرب إلى الجمهورية، ويدل السوق الكبير على ذلك. يقول هويوس إنه كان لقرطاجة قاضيان مُنتخَبان (أو ملكان حسب تسمية الإغريق)، حَكَما إلى جانب مجلس الشيوخ ومجلس الشعب، ولجان خماسية (تتكون كل لجنة من خمسة أشخاص)، إضافةً إلى هيئة غامضة سُمِّيَت (مجلس المئة وأربعة) تضمنت مهامها عقاب قادة الجيش المهزومين.

تمتع أبناء قرطاجة الأثرياء من العائلات ذات النفوذ والقوة بأفضلية الوصول إلى مراكز السلطة، وليس ذلك مُستغرَبًا في الجمهوريات القديمة (ولا حتى في بعض الجمهوريات المعاصرة!)، لكن توافر الفرص التجارية -إلى جانب نظام الحكم الجمهوري- ساعد على ازدهار المدينة، إذ تجاوز عدد سكانها نصف مليون نسمة، قبل أن تُدمّرها روما في القرن الثاني قبل الميلاد.

ازداد تأثير قرطاجة الخارجي مع زيادة نموها وازدهارها، فتدخلت في شؤون سردينيا وإسبانيا وصقلية، ما تسبب في خلافها مع روما.

أسطورة تأسيس قرطاجة

كان تأليف أساطير مُفصَّلة تروي قصص قيام أكبر مدن العالم القديم أمرًا مألوفًا، وقد سرد كُتَّاب الإغريق والرومان أسطورة تأسيس قرطاجة قبل 2800 عام.

تقول الأسطورة إن الملكة الفينيقية إليسا (سُميت أحيانًا ديدو) حكمت مدينة صور مع شقيقها بجماليون بعد وفاة والدهما، لكن نشبت الخلافات بينهما، وأمر بجماليون بإعدام زوج إليسا (عاشرباص).

غادرت إليسا المدينة مع مجموعة صغيرة من السكان وأبحروا غربًا مسافة 2300 كيلومتر حتى رست سفينتهم في أرض يحكمها ملك اسمه يارباس سمح لهم بتأسيس مستوطنة في موقع لا تتجاوز مساحته مساحة ما يغطيه جلد ثور مسلوخ (فقطّعوا جلد الثور إلى شرائح رقيقة ليغطي أكبر مساحة ممكنة)، وطلب الملك يارباس من إليسا أن تتزوجه فقتلت نفسها بالسيف في محرقة جنائزية.

لم يجد علماء الآثار بقايا مدينة قرطاجة القديمة التي تعود إلى القرن التاسع قبل الميلاد، لذلك يعد الباحثون القصة السابقة محض أسطورة خيالية، خاصةً أن أكثر مصادرها رومانية وإغريقية، بل يرى البعض أن القرطاجيين أنفسهم لم يؤمنوا بهذه القصة.

مدينة قرطاجة ودائرة نفوذها قبل الحرب البونية الأولى (264 ق.م)

مدينة قرطاجة ودائرة نفوذها قبل الحرب البونية الأولى (264 ق.م)

الحروب البونية

دارت بين روما وقرطاجة 3 حروب بونية، نتج عنها دمار قرطَاجة وإعادة تأسيسها.

لكن لم تكن العلاقة بين المدينتين عدائية دومًا، فقبل قيام الحرب البونية الأولى سنة 264 ق.م شهدت المدينتان تاريخًا طويلًا من التجارة المُتبادَلة، وتحالفا مرةً ضد (بيروس) ملك إيبيروس (ألبانيا حاليًا)، في الحرب التي نعرفها اليوم باسم الحرب البيرية.

أما أسباب قيام الحروب البونية بين قرطاجَة وروما فما زالت محل جدل بين المؤرخين، لكن المرجح أن شرارة الحرب اشتعلت في صقلية، وكانت قرطاجة مسيطرةً على غرب هذه الجزيرة منذ زمن طويل في مواجهة مدينة (سرقوسة) الإغريقية.

وفي سنة 265 ق.م عرضت مجموعة من المرتزقة السابقين الذين تمركزوا في مدينة (ميسينا) الصقلية مساعدة قرطاجة وروما ضد سرقوسة، فأُجيب طلبهم من الجانبين. يقول ريتشارد مايلز إن قرطاجة أرسلت قوةً صغيرة إلى ميسينا لكن قوةً رومانية أكبر طردتها لاحقًا، فتصاعد التوتر بين البلدين حتى اندلعت بينهما الحرب.

امتلكت قرطاجة أسطولًا بحريًا ساعدها على التفوق في البداية، لكن الأسطول الروماني ابتكر أداةً تشبه الجسر أسموها (كورفوس)، ساعدت الجنود الرومانيين على اقتحام السفن القرطاجية.

استمرت الحرب البونية الأولى أكثر من عشرين عامًا، وانتهت بقبول قرطاجة معاهدة سلام مُهينة، تنازلت للرومان بموجبها عن صقلية، إضافةً إلى مناطق أخرى على البحر المتوسط كانت تحت سيطرتها.

اندلعت الحرب البونية الثانية سنة 218 ق.م واستمرت حتى 201 ق.م، وهاجم فيها القائد القرطاجي هانيبال (هنبعل) إيطاليا مباشرةً بعد أن عبر إسبانيا وجبال الألب، وقد نجح هجوم هانيبال في البداية فاحتل أراضيَ إيطالية واسعة وهزم الجيش الروماني في معركة كاناي جنوب إيطاليا سنة 216 ق.م.

لكن هانيبال فشل في احتلال روما، وخلال العقد التالي، شنَّ الرومانيون سلسلة هجمات مضادة في إيطاليا وإسبانيا وصقلية، غيرت هذه الهجمات مسار الحرب وحولت نصر قرطاجة إلى هزيمة، ثم وصلت قوة رومانية بقيادة (سكيبيو) إلى إفريقيا سنة 204 ق.م فهزمت هانيبال في معركة زاما وفرضت سلامًا على قرطاجة جرّدها من الأراضي والأموال.

لم تشهد الحرب البونية الثالثة في الفترة (149-146 ق.م) أحداثًا مهمة سوى حصار مدينة قرطاجة الطويل الذي انتهى بحرق المدينة. وتروي أسطورة معاصرة كيف حرث الرومان حقول قرطاج ورشوها بالملح لتصبح بورًا غير قابلة للزراعة، لكن الروايات القديمة لا تذكر هذه القصة.

قرطاجة الرومانية

لم تغب قرطاجة عن مسرح التاريخ طويلًا، إذ أنشأ يوليوس قيصر -بعد قرن من دمار قرطاجة- مدينةً رومانية جديدة في الموقع نفسه، وبحلول القرن الثاني الميلادي أصبحت قرطاجة الجديدة أكبر مدينة في شمال إفريقيا إلى الغرب من مصر.

تصف الباحثة عائشة بن عابد هذه المدينة في كتابها (من الفسيفساء التونسية) فتذكر ضمن معالمها حمامات أنطونية عملاقة (نسبةً إلى أنطونيو)، كانت أكبر حمامات عامة في الإمبراطورية الرومانية، ما يدل على ازدهار المدينة.

لم تضعف أهمية قرطاجة مع مرور الزمن، إذ تحتضن العاصمة التونسية الآن أطلال قرطاجة القديمة.

اقرأ أيضًا:

الفينيقيون: من هم؟ وأين عاشوا؟

ماسينيسا : الملك الأمازيغي الذي حارب الجميع

ترجمة: الحسين الطاهر

تدقيق: وئام سليمان

مراجعة: أكرم محيي الدين

المصدر